أولاً: مقدمة:

في أواخر مارس 2018 اختار الائتلاف الحاكم في إثيوبيا، د. أُبيْ أحمد، رئيساً جديداً للوزراء عقب استقالة هايلي مريم ديسالين شهر فبراير. وباختيار أُبيْ أحمد البالغ من العمر 42 عامًا والمنحدر من قبيلة الأغلبية الأورومو، ضابط المخابرات الحربية الذي شارك في الحرب الإثيوبية – الإريترية قائداً لفريق استخباراتي لاكتشاف وتحديد مواقع الجيش الإرتيرى فى الجبهات الأمامية للقتال، يكون أول رئيس حكومة مُسلم في إثيوبيا في سابقة تُعد الأولى من نوعها في تاريخها.

ثانياً: الوضع الإثيوبي الإريتري قبل أُبيْ أحمد:

أعلنت إريتريا استقلالها الرسمي عن إثيوبيا بعد أن صوت أغلبية سكانها لصالح الانفصال في استفتاء عام 1993. بعد الانفصال، أقامت حكومتا البلدين علاقات صداقة متوترة، وأبرمتا اتفاقات مختلفة لتنظيم علاقاتهما الثنائية. ومع ذلك، فإن جميع التحالفات التي تشكلت خلال أيام النضال المسلح والاتفاقات التي تم إبرامها بعد الانفصال لم تدم طويلاً.

لا شك أن الاختلافات الناشئة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلدين في أعقاب الانفصال مباشرة قد ضاعفت من مشكلة العلاقات بينهما، والتي أدت في وقت لاحق إلى حرب شاملة أستمرت عامان.. وبالفعل، فإن مرور الوقت قد أحدث تغييرات كبيرة، وأدت الحواجز السياسية والمادية في العقدين الماضيين إلى انفصال ثقافي متزايد حتى بين الناس الذين يعيشون على طول حدود الدولتين.

وقد خلفت الحرب الحدودية ما يقرب من 70000 قتيل خلال الصراع، وبعد انتهاء الحرب، أنشأت لجنة الحدود الإريترية الإثيوبية  (EEBC)، وهي هيئة أسستها الأمم المتحدة، معتبرة “بادمي”، المنطقة المتنازع عليها بين البلدين حالياً، تابعة إلى إريتريا.

بعد صدور قرار اللجنة، قام كلا البلدين بتحويل متطلباتهما في عملية تنفيذ القرار. وفي هذا الصدد ، فإن الجانب الإثيوبي، رغم معارضته لقرار اللجنة التي حكمت بأن تكون “بادمي” جزءً من إريتريا، أوضح أيضا أنه سيقبل تماما قرار اللجنة باعتباره قرارا نهائياً وملزماً من حيث المبدأ بينما يحث على التفاوض حول كيفية تنفيذ القرار وترسيم الحدود بالكامل، ولكن إثيوبيا لم تسحب قواتها العسكرية من “بادمي”.

ولم يتناول الاتفاق وقرار لجنة الحدود قضايا حيوية مثل إعطاء الإريتريين حق الوصول إلى السوق الإثيوبية الهائلة والاستثمار في إثيوبيا إذا رغبوا في ذلك. بينما من ناحية أخرى، فإن أكبر مشكلة لأثيوبيا في الإتفاق هو حرمان إثيوبيا من الوصول للبحر الأحمر من خلال ميناء عصب.. نجد ذلك في الوقت الذي تدفع فيه إثيوبيا 2 مليار دولار سنوياً لخدمات الموانئ بجيبوتي والتي قد يتعرض أمنها للخطر بشكل كبير.

المشكلة الحقيقية تكمن في عدم قيام إثيوبيا بسحب قواتها من “بادمي” الأريترية، بحجة أن تنفيذ هذا القرار سيؤدي إلى انتقال بعض الأراضي إلى إريتريا والبعض الآخر لإثيوبيا والذي سيسبب إزعاج وتعطيل حياة قاطني تلك المنطقة نتيجة لتمزيق أراضي وحياة أسرهم الصغيرة.. هذا ما يجعل أريتريا لا ترى فائدة من التفاوض بل يجب تنفيذ قرار سحب القوات الإثيوبية من “بادمي” فوراً.

قام السفير “دونالد ياماموتو”، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية، بأول رحلة له إلى إريتريا منذ سنوات، والتي أظنها محاولة للتغيير وكسر عزلة أريتريا، حيث أستهدفت الزيارة إشراك الحكومة الإريترية بدلاً من النهج الانعزالي القائم.. ورغم أن “ياماموتو” لم يكشف عن تفاصيل مضمون المناقشة مع المسؤولين الإريتريين، فقد أكد أن إحدى القضايا التي ناقشها في أسمرة كانت حول علاقة إثيوبيا وإريتريا.. وأظن ان الولايات المتحدة تنظر لأريتريا نفس نظرتها لكوريا الشمالية، بصفتهما دولتين تتصفا بالعدوانية نظراً لعزلتهما.. ناهيك عن أن أريتريا تُحمِل الولايات المتحدة، بصفتها كانت ضامناً لإتفاقية السلام الإثيوبية – الإريتيرية، مسؤولية الموقف الإثيوبي عن عدم تنفيذ اتفاق السلام كاملاً الذي من شأنه أن يمنح إريتريا مدينة “بادمي” ذات الأهمية الرمزية لأريتريا.

ثالثاً: أُبيْ أحمد يعرض إمكانية حل دائم للمشكلة الحدودية مع أريتريا:

في خطوة غير مسبوقة، اتخذ رئيس وزراء إثيوبيا المعين حديثاً في خطابه الافتتاحي قبل شهر، خطوة جريئة لاستدعاء نظيره في إريتريا لمناقشة مسألة الحدود وإيجاد حل دائم للمشكلة. وقال أبي أحمد: “إننا ملتزمون تماما بالتصالح مع إخواننا وأخواتنا الإريتريين” ، وحث الحكومة الإريترية على القيام بدورها من خلال بدء حوار من شأنه أن يساعد على إعادة العلاقة السلمية.. وعلى صعيد آخر قام أبي أحمد بإقالة رئيس أركان الجيش ورئيس المخابرات ربما لإعتباراهما من الحرس القديم الواجب تغيير سياساته الإقليمية والداخلية.

إلا أنه وحتى الآن لم يجد رداً من أريتريا مواتياً لإتجاه مبادرته، وربما لأرتيريا مبرراتها، ويبدو أن تغيير رئيس الأركان ورئيس المخابرات الإثيوبي ليس كافياً لإقناع إريتريا بإستئناف المفاوضات وتطبيع العلاقات مع نظيرتها.. فلا بديل عن أن تحتم إثيوبيا الالتزامات الدولية بالانسحاب من الأراضي المحتلة.

جديرٌ بالذكر أن زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية “دونالد ياماموتو” الأخيرة مُجدداً في إبريل 2018 لإثيوبيا وإريتريا بعد زيارته لجيبوتي كانت بهدف إتمام المصالحة بين البلدين، وأظنها الدافع الحقيقي لمبادرة أُبيْ أحمد.

رابعاً: ملخص إعتبارات وأصداء مبادرة أُبْي أحمد على دول الإهتمام:

مصر ما زالت تحقق ضغوطاً على إثيوبيا من خلال إريتريا وصومالي لاند، حيث تسعى مصر دائماً لتأمين عمقها الإستراتيجي الجنوبي حتى مضيق باب المندب، وكذا تأمين شريان الحياة الرئيسي لمصر وهو نهر النيل.. إلا أن سياسة مصر الحالية تحاول أن تجد منفذاً لإيجاد علاقات جيدة مع إثيوبيا بالتوازي مع إريتريا وبما يؤمن لها هدفهيها القوميين (باب المندب ونهر النيل)، وهو ما تحاول مصر توفيقه في ضوء علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية والإمارات والسعودية والمصالح المشتركة تلك الدول في القرن الإفريقي.

رغم العلاقات التجارية الإمارتية/ الإثيوبية، إلا أنها لا تمثل شيئ بجانب إستثمارات الإمارات في مصر والسودان كدول جوار مطلة على البحر الأحمر.. وعلى الصعيد السياسي كان قد وقع الجانبان الإماراتي والإثيوبي مذكرة تفاهم لإستحداث آلية مشاورات سياسية في 8 مارس 2018.

ومنذ عام 1991، وعلى الرغم من التشجيع والجهود التي تبذلها إثيوبيا لدولة الإمارات للاستثمار في إثيوبيا، لم تكن الإمارات قد إستجابت في الآونة الأخيرة، ومع ذلك إزداد حجم التجارة بين البلدين لأضعاف، مع الوضع في الإعتبار القرارات السابقة للسعودية بتثبيط أي استثمار في إثيوبيا، إلا أنني أتوقع تزايد الاستثمارات الإماراتية في أثيوبيا مع تنصيب أبي أحمد رئيساً للوزراء تمهيداً لبدء علاقات أكثر تطوراً بين البلدين، وبما يعاون في تشكيل خريطة النفوذ الجديدة.

وتعود العلاقات الحادة بين السعودية وإثيوبيا إلى سنوات عديدة في تاريخ علاقاتها وتفسرها عدم قابلية بعض المواقف حول القضايا الثنائية والإقليمية. إلا أنه، وفي المقابل، في حرب الخليج عام 1991 اتخذت إثيوبيا موقفًا قويًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد غزو العراق للكويت، وكذا تجاه الحرب الأهلية الليبية في عام 2011، والذي جلب دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة الإمارات وقطر، بصورة أقرب إلى إثيوبيا مما كانت عليه من قبل. ولكن على أي حال، لا يمكن وصف علاقات الإمارات وقطر بإثيوبيا بالعلاقات القوية. أما العلاقة الوثيقة بين الإمارات وإريتريا فتضيف سبباً جيوسياسياً آخر لعدم قوة العلاقات الإماراتية مع إثيوبيا، والتي قد تتأثر حالة نجاح أبيْ أحمد في تطبيع العلاقات الإثيوبية – الأريترية. وفي كل الأحوال ستبقى المصالح الخليجية في اليمن اليمنية سبباً قوياً لوجود الدور والدعم الخليجي (بشقيه) لأي منفذ سيطرة لها على اليمن من جهة القرن الإفريقي، وهو ما يؤكد ضرورة قيام الإمارات والسعودية باستغلال المصالحة الإثيوبية مع إريتريا بشكل يحقق مصالحها هي ومصر ويعظم نفوذهما على حساب قطر وتركيا، بشكل قد يضبطه الإيقاع الأمريكي في القرن الإفريقي.

آليات إدارة النفوذ في القرن الإفريقي:

في الوقت الذي حققت فيه إسرائيل نفوذاً قوياً في شرق إفريقيا وخاصة إثيوبيا مع تقلص الدور المصري في القارة السمراء منذ عقود مقتصرة تركيزها على القرن الأفريقي ، قد نرى التنفاس الإقليمي على النفوذ في القرن الأفريقي من زاوية أخرى.. حيث نرى تعاظم للدور التركي ومعها قطر في الصومال الجار الجنوبي لإثيوبيا وفي السودان الجار الشمالي لجنوب السودان وإريتريا، وفي المقابل نجد الطرف المنافس القوي متمثلاً في السعودية والإمارات ومصر يمارسون نفوذهم في صومالي لاند وإريتريا وجنوب السودان.

وفي خضم هذا الصراع الإقليمي على النفوذ في القرن الإفريقي، قد لا نجد القواعد المعتادة في لعبة الصراع على النفوذ بين الدول العظمى والتي تعلم فيه كل دولة جيداً قواعد اللعبة وأي قوة من قواها الشاملة يمكن استخدامها أمام منافسيها بدقة واتقان وليس القوة الإقتصادية فقط.. في الوقت الذي أوجدت فيه بعض الدول الغنية وتحديداً (السعودية والإمارات وقطر) دوراً كبيراً للقوة الإقتصادية والتي اختزلتها في كثير من الأحيان في القدرات المالية كعنصر رئيسي لفرض نفوذها، وهو ما قد أضعف قدرة القوى الدولية على إدارة النفوذ بالقرن الأفريقي، وذلك على الأقل من وجهة النظر الدولية.

الولايات المتحدة ومساعي توسيع نفوذها في القرن الإفريقي:

وفي نفس السياق السابق، نجد الولايات المتحدة تتحسب بشدة لمنافسها الإقتصادي الأقوى في أفريقيا، وخاصة شرقها، وهو (الصين) وربما روسيا في القريب العاجل.. فهي ترى إثيوبيا شريكاً إستراتيجياً هاماً، خاصة فيما يتعلق بما أسمته الحرب العالمية على الإرهاب، كما تعتبرها الدولة الأمثل لتوسع نفوذ الولايات المتحدة في القرن الأفريقي وشرق إفريقيا حالة تصويب إثيوبيا علاقاتها مع إريتريا.. فالولايات المتحدة تواجه مشاكل مع السودان، ولديها علاقات مع إريتريا أتصورها سيئة.. كما أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تجعل من حكومة في الصومال غير المستقر شريكاً إستراتيجياً، أما جيبوتي التي تربطها بالولايات المتحدة علاقات جيدة وأقامت منشآت عسكرية فيها، فهي دولة صغيرة للغاية ولن تكون أبداً الركيزة التي تبني الولايات المتحدة من خلالها استراتيجية إقليمية تحقق نفوذها المحكم بعيد المدى. ولذا، قد تفكر الولايات التحدة في توسيع رقعة قيادتها في شرق أفريقيا مستغلة الموقع الجغرافي الأثيوبي، ويدعمه المصالحة الأثيوبية/ الأريترية، وبما يحقق للولايات المتحدة إمكانية إستيعاب التواجد الصيني الحالي والروسي المحتمل في القرن الإفريقي، ومنعهما من التوسع.

لواء أ.ح. سيد غنيم
زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا
رئيس مركز دراسات الأمن العالمي والدفاع – أونلاين

 

شارك