بقلم: ســـيد غنـــيم، 20 يونيو 2020
طبيعة التنافس التركي الإيراني:
لا شك أن التنافس الإقليمي الأهم في منطقة الشرق الأوسط هو بين القوتين الإقليميتين تركيا وإيران. فكلِ من البلدين يحمل استراتيجية إقليمية كبرى، والتي تمتد لأقاليم أخرى، حيث نجد تحرك كلا البلدين ملحوظاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والقرن الإفريقي والبلقان ووسط آسيا، وغيرها. ناهيك عن توغل إيران في أمريكا اللاتينية الفناء الخلفي للولايات المتحدة.
كما أن كلا البلدين لديهما أصول استعمارية لإمبراطوريتين لهما تاريخ توسعي في عدة أقاليم، ورغم كونهما تدينا بالإسلام، إلا أنهما على غير وفاق طائفياً.
على صعيد آخر، وبعد سقوط الدولة العثمانية وإعلان أتاتورك دولة تركيا الحديثة عام 1923 وبدء تحول تركيا من دولة دينية إلى دولة قومية علمانية ذات علاقات ومصالح مشتركة مع الغرب، تطورت خلالها السياسة الداخلية التركية لتصبح العلمانية راية يرفعها الجيش التركي ويدافع عنها، لدرجة أن الجيش التركي أصبح له الكلمة المؤثرة بل والعليا على القرارات السياسية التركية. الأمر الذي جاء في صالح العلاقات التركية/ الإسرائيلية في العصر الحديث، مما جعل تركيا من أهم شركاء إسرائيل على كافة الأصعدة في ظل العلاقات العسكرية التي امتدت بقوة للعلاقات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية وغيرها.
في هذه الفترة كان الخاسر الأكبر هو إيران. لا شك أن أخطر تهديد على إسرائيل وألد عدو لها منذ نشأتها كانت مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكان العالم يرى عداء ناصر لإسرائيل قومياً متضمن الكتلة الغربية الداعمة لإسرائيل، وليس عداءاً دينياً من منطلق أن الإسلام واليهودية كتب سماوية وأن هناك يهود مصريين في مصر ويحملون الجنسية المصرية. وبتولي السادات السلطة عام 1970 وإبرامه اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979 بعد ستة أعوام من حرب أكتوبر ليتقلص العداء العسكري تدريجياً بين البلدين مع الاحتفاظ برأي عام مصري وعربي مناهض لإسرائيل.
في المقابل ومع بدء الدولة الإسلامية في إيران تحت الحكم الملالي، ظهر العداء الإيراني ذو الطابع الديني/ القومي تجاه إسرائيل، في نفس الوقت التي كانت العلاقات التركية/ الإسرائيلية في تحسن مستمر، الأمر الذي زاد من التنافس الإيراني/ التركي وقتها.
إلى أن تولى أردوغان منصبه رئيساً لوزراء تركيا عام 2002 وما يحمله هو حزبه الديني من رؤى وأجندات، ليظهر بدء التنافس التركي/ الإسرائيلي من جانب، والتنافس الداخلي بين حكومة أردوغان والجيش التركي من جانب آخر. الأمر الذي دفع أردوغان تدريجياً لإضعاف نفوذ القادة العسكريين في الداخل التركي، وأيضاً إضعاف علاقات القادة العسكريين بإسرائيل، وبما يكسر شوكة العسكريين الأتراك والنفوذ الإسرائيلي المتوغل داخل تركيا والمؤثر على القرارات السياسية التركية من خلالهم. إلى أن حسم أردوغان هذا الأمر نهائياً لصالحه عقب الانقلاب العسكري التركي الفاشل ضده في منتصف يوليو 2016.
جاء ما سبق بالطبع في صالح إيران (الدولة الإسلامية) لتتفق مع تركيا في عدائها لإسرائيل من خلال القضية الفلسطينية، الأمر الذي بدء في إظهار تنافساً تركياً إيرانياً تجاه مصر والأردن (الدولتين القومية السنية) في القضية الفلسطينية.. والنتيجة هنا أن إيران الشيعية وتركيا السنية تتفق على منافس مشترك وهو إسرائيل.
التحول حديثاً بين تركيا وإيران من حالة التنافس إلى التعاون المؤقت:
لا يغفل أحد الصدامات العسكرية التركية/ الإيرانية في سوريا والذي أدى لتصادم عسكري بين البلدين في إدلب في فبراير 2020، إلا أن البلدين وفي إطار التطور الإيجابي (الظاهري) في العلاقات بين البلدين، فقد نجحا بشكل ملحوظ في تقليص التوترات من خلال الحوار متعدد الأطراف ومنصات إدارة الصراع في السنوات القليلة الماضية. حيث عارضت إيران بشدة محاولة الانقلاب العسكري في تركيا عام 2016. وانتقدت تركيا بدورها الاحتجاجات في إيران عام 2018 والعراق عام 2019، وكلا الاحتجاجين كان لهما القدرة على زعزعة المؤسسة الإيرانية ونفوذها الإقليمي. وقد عززت عدة أعوام أخرى التقارب بين البلدين، أهمها مستويات متفاوتة من الشك والعداء تجاه دور الولايات المتحدة في سوريا، وتهديد (مشترك) متزايد من قبل حزب العمال الكردستاني وفروعه الإقليمية، وموقف تركيا وإيران الموحد من مقاطعة قطر، والتنافس الذي قد يصل إلى مرحلة العداء التركي/ الإيراني (المشترك) تجاه الرياض وأبوظبي وإسرائيل.
ورغم أن العقوبات الأمريكية على إيران خفضت التبادل التجاري بين تركيا وإيران إلى النصف تقريباً على أمل توسيع الفجوة بين البلدين والتي حالة تقاربهما يضر بالمصالح الأمريكية والأوربية بشدة، إلا أن تركيا ما زالت تصر على دعم علاقاتها مع إيران في تجنب مؤقت لحالة التنافس المزمنة بينهما، فتركيا ما زالت تحتاج لإيران في عدة أمور، منها تمرير الأنشطة الاقتصادية التركية لوسط آسيا عبر إيران، والتوافق التركي/ الإيراني ضد إسرائيل والسعودية والإمارات في سوريا وربما في ليبيا، حيث تحتاج إيران لقوة إقليمية أخرى تدعم موقفها أمام منافس مشترك في اليمن وهي تركيا بالتأكيد، ليصبح الأمر في بؤر الصراع شديد التعقيد. وهنا يظهر الدور الأهم للمنسق العام بين المتنافسين وهو روسيا، حيث تمكنت من إدارة التنافس بين تركيا وإسرائيل وإيران في سوريا، أرها تسعى لأداء نفس الدور في ليبيا ربما مع استبدال إسرائيل بمصر، فضلاً عن اليمن الذي ما زال أمام روسيا أحد خيارين سواء التدخل العسكري في اليمن أو استمرار دورها السياسي في الأزمة والمتمثل في دعم الحكومة الشرعية والحفاظ على وجود الحوثيين، كل ذلك في موائمات مع إيران والدول الخليجية الفاعلة في اليمن.
مستقبل العلاقات التركية/ الإيرانية:
وفي مؤتمر صحفي مع نظيره التركي جاويش أوغلو في أنقرة، صرح وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف قائلاً: “لدينا وجهات نظر متقاربة ومشتركة مع تركيا، وتبادلنا الرؤى بالنسبة للأزمة في اليمن ومعاناة الشعب اليمنى، ونحن منذ سنوات نريد أن تتحسن الأوضاع في ليبيا واليمن، ولدينا رؤى مشتركة مع تركيا، ونحن ندعم الحكومة الشرعية في ليبيا ونعتقد أنها (أي حكومة السراج) قادرة على إنهاء الأزمة، لذلك نرى أننا يمكن أن نتعاون في رؤيتنا المشتركة في اليمن وفى ليبيا على حد سواء”.
وهنا يجب إعادة النظر للأطراف في الأزمتين الليبية واليمنية، فنجد إيران تعلن دعمها لحكومة السراج في ليبيا المنافسة لحكومة الثني في بنغازي والتي تؤازرها سوريا الحليف الأهم لإيران شمال الهلال الشيعي. على صعيد آخر، نجد أن حكومة السراج تلقي دعم غربي (أمريكي أوروبي) في ظل التواجد الروسي داعم لحفتر العدو اللدود للسراج، وكأن إيران تقف في صف واحد مع عدوها اللدود (الولايات المتحدة) في ليبيا.
على صعيد آخر، نجد أن تصريح ظريف بشأن توافق إيراني تركي في موقفهما تجاه الأزمة اليمنية، في الوقت الذي تدعم فيه تركيا بل تعمل عناصر المخابراتية من خلاله في اليمن وهو حزب الإصلاح اليمني المنتمي للإخوان المسلمين والعدو اللدود للحوثيين.
في الحقيقة الأمر يبدو لي تنافس متشابك طرفيه (تركيا وإيران وفي باطنه قطر) تجاه (السعودية والإمارات)، يغلفه تنافس آخر طرفيه إسرائيل من جانب وإيران وتركيا من جانب آخر. فإيران عدو للسعودية والإمارات وإسرائيل، وتركيا منافس قوي للإمارات والسعودية ومنافس حذر لإسرائيل، كما تعمل في ديناميكية أمنية جديدة في مواجهة الولايات المتحدة تتفاوت بين اختلافات المصالح وفرض الموائمات، في ظل التهديد العسكري والعقوبات المتزايد بواسطة الولايات المتحدة تجاه إيران. مع الوضع في الاعتبار الموقف المصري المعادي أيديولوجياً لتركيا وقطر بشكل عام بشأن دعمهما لتنظيم الإخوان المسلمين، والموقف المصري المنافس أمنياً لتركيا في ليبيا.
وتبقى قطر من جانب وروسيا ومن خلفها الصين من جانب آخر المستفيد الأكبر من تلك المنافسات و العداءات والموائمات على السواء.
ومما سبق، أرى أن تصريح جواد ظريف بشأن توافق التوجهات والمصالح الإيرانية/ التركية في ليبيا واليمن هو استدراج وتشتيت للمعسكر الغربي والمنافسين الخليجيين ومصر دون تحرك إيراني تركي متبادل في بؤرتي الصراع. إلا أنني أتوقع أن يستمر التفاعل الإيجابي بشكل مؤقت بين تركيا وإيران، مع استمرار تركيا في محاولة استقطاب دول أخرى داعمة لموقفها في ليبيا كالجزائر وتونس، مع استمرار التواجد الروسي وتخبط الولايات المتحدة والمعسكر الغربي، دون تحرك عسكري تركي في اليمن أو عسكري إيراني في ليبيا.
شارك

administrator