أولاً: بحر الصين الجنوبي (شرق آسيا) – أكتوبر 2021:

أزعم أن الصين لن تلجأ لاستخدام القوة العسكرية إلا حالة تجاوز أربع خطوط حمراء، ومن أهمها تهديد (سياسة الصين الواحدة)، مثل محاولة تايوان لنيل حق انفصالها.وخلال شهر أكتوبر 2021 زادت حدة التوتر بين الص وتايوان، لدرجة لم تحدث منذ 40 عاماً كما قال وزير الدفاع التايواني، وذلك رغم تكرارها. فتصعيد التوتر في بحر الصين الجنوبي يتكرر حدوثه ولكنه عادة مع استفزار تايوان للصين بتلمحياتها لما هو أبعد من الحكم الذاتي كالانفصال التام والسعي للاعتراف الدولي بتايوان كدولة مستقلة. إلا أن هذه المرة المبادرة كانت من جانب الصين في تصعيد التوتر.

لدرجة أن الرئيس الأمريكي جو بايدن أعلن استعداده للدفاع عن تايوان، ولكنه تراجع عن تصريحه فيما بعد، وقد وضح البنتاجون أن بايدن لم يقصد التدخل العسكري أمام الصين، فنشوب حرب بين الصين والولايات المتحدة هو أسوأ السيناريوهات في بحر الصين الجنوبي، وهو أيضاً أكثرها استحالها، فليس من صالح البلدين على الإطلاق نشوب حرب بينهما أيً كانت الأسباب.

ثانياً: البحر الأسود (شرق أوروبا) – ديسمبر 2021:

وفي ديسمبر 2021 قامت روسيا بحشد قواتها على حدود أوكرانيا معلنة حدة خطابها تجاه أوكرانيا، والتي كانت هادئة منذ انتهاء الحرب بينهما بنهاية العام 2014، بل وأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن مقترح اتفاق أمني شامل مع الناتو والذي تلخص في مطالب محددة وبشكل صريح من الناتو والولايات المتحدة وهــي:

1- تخلي أوكرانيا وجورجيا عن رغبتهما في الانضمام لحلف الناتو.

2- وقف جميع الأنشطة العسكرية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.

3- انسحاب قوات الناتو من شرق أوروبا وكما كان الوضع قبل عام 1997.

منتهى الجرأة والوضوح، رغم أن بوتين يعلم تماماً استحالة تلبية الولايات المتحدة أو الناتو لأيً من مطالبه الثلاث وهو ما حدث بالفعل. وهنا تظهر لنا عدة سيناريوها من ضمنها دخول قوات عسكرية روسية في الأراضي الأوكرانية، الأمر الذي يفقد الناتو ميزة العمق الاستراتيجي الذي كانت تحققه أوكرانيا للناتو أمام روسيا، ومن ثم، فإن الناتو سيفكر بقوة في نقل المزيد من القوات إلى الدول الحليفة المتاخمة لأوكرانيا، مثل بولندا ودول البلطيق، وهو أمر بالتأكيد تتحسب له روسيا بشكل كبير ولا تتمناه على الإطلاق.

ولا شك أيضاً أن سيناريو نشوب حرب بين روسيا وبين الولايات المتحدة والناتو يُعد الأسوأ، ولكنه أيضاً أكثر السيناريوهات استحالة.

وقد ذكرتها في العديد من محاضراتي ونقاشاتي، وآخرها خلال نقاشي مع دبلوماسي أوكراني في أبوظبي أمس، حيث اتفقنا على أنه حالة نشوب حرب بين دولتين من الدول العظمى النووية فالمنتصر لا محالة سيكون الدولة العظمى الثالثة، وبالطبع الولايات المتحدة والصين وروسيا يعلموا ذلك جيداً.

ثالثاً: لماذ الآن؟

اعتقد أن ما حدث مؤخراً في تايوان وتحديداً خلال شهر أكتوبر 2021 تزامنا مع أزمة أوكرانيا في ديسمبر 2021 هو نتاج أهداف صينية روسية بعضها منفصل والبعض الآخر مشترك. فالتصعيد الصيني الأخير أمام تايوان ما هو إلا رسالة منها للولايات المتحدة تحمل محاولة لإثبات السيطرة على بحر الصيني الجنوبي الذي تعتبره الولايات المتحدة مسرحاً لإبحار أسطولها السابع الأكبر ضمن أساطيلها البحرية العسكرية، وذلك في إطار التصعيد بين بكين وواشنطن. والتصعيد الروسي أمام أوكرانيا يحمل ثلاث مطالب واضحة كلها تسعى لاستعادة هيبة روسيا وتضييع نجاحات ومكتسبات الولايات المتحدة وأوروبا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى الآن.

ولإنجاح هذين الهدفين المنفردين لابد من الدفع وراء أهداف مشتركة للبلدين وعلى رأسها تشتيت الجهود الأمريكية الأوروبية في مسارح استراتيجية شديدة الأهمية والخطورة وهي (شرق آسيا وشرق أوروبا)، ناهيك عن الاشتعال المتزايد بعدة بؤر في الشرق الأوسط والتحديات الكبيرة في وسط آسيا كافغانستان وكازاخستان والقرن الإفريقي. وأيضاً بهدف زيادة الضغط على الولايات المتحدة بكل ما أوتيا من قوة وبما يزيد من حرمان واشنطن من الإنفراد بالقرارات الدولية وتقليل تركيزها في العديد من المناطق والقضايا الإقليمية والدولية والتي تضر بشدة بمصالح الصين وروسيا. ولا ننسى أن روسيا مصنفة كـ(تهديد) لكل من الولايات المتحدة والناتو، والصين مصنفة كـ(تهديد) للولايات المتحدة ومصنفة كـ(تحدي) للناتو، وهو ما يعقد العلاقات بشدة بين الشرق والغرب. ومن أهم هذه القضايا المفاوضات الجارية حالياً في جنيف بشأن الاتفاقية النووية مع إيران. حيث أعتقد أن الصين تتفق مع روسيا في التوقيت في الضغط على الولايات المتحدة وأوروبا بشأن الاتفاقية النووية أمام إيران (الحصان الأسود للصين وروسيا أمام الغرب والعمود الفقري لمبادرة الحزام والطريق). فبالرغم من أن الصين وروسيا قد وقعا من قبل الاتفاقية النووية مع الولايات المتحدة وأوروبا منتصف عام 2015، إلا أن موقف الصين وروسيا في عام 2022 أصبح أقوى من موقفهما أمام أمريكا وأوروبا عام 2015، فروسيا مستقرة في سوريا ولها أدوار في ليبيا وأفغانستان وكذا مع إيران. كما نجد أن الصين قد أخذت شوطاً في مبادرة الحزام والطريق ولها أدوار اقتصادية وسياسية في الموقف الإيراني وفي أفغانستان وحالياً في القرن الإفريقي خاصة مع إعلانها مؤخراً تعيين مبعوثاً لها في القرن الإفريقي. ناهيك أن ثقة دول المنطقة وعلى رأسها دول الخليج، خاصة الإمارات والسعودية، قلت بشدة تجاه الولايات المتحدة، وهو ما يمثل عامل ضغط موازي على واشنطن خاصة بشأن الاتفاقية النووية مع إيران. وربما نتوقع (أو نتمنى) إنفراجة في مفاوضات الاتفاقية النووية بفيينا قريباً.

د. سيد غنيم، دكتوراه في العلوم السياسية، زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا (مصر) – أستاذ زائر بالناتو

رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع (IGSDA)، الإمارات العربية المتحدة

شارك

administrator

استشاري الأمن الدوَلي والدفاع، رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع، الإمارات العربية المتحدة، وأستاذ زائر في العلاقات الدولية والأمن الدولي في أوروبا وشرق آسيا، (مصري)