معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع:
القسم الأمني والعسكري
دكتور سَــــيد غُنــــيم
زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا
رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع
الأستاذ الزائر بالناتو والأكاديمية العسكرية الملكية ببروكسل
على مدار الأشهر القليلة الماضية، تشير أدلة متزايدة إلى أن إدارة ترمب لعبت دورًا حاسمًا في النجاح العسكري الروسي الأخير في كورسك. ما بدا في البداية وكأنه تحول في السياسة الأمريكية قد يكون في الواقع جزءًا من اتفاق سري بين ترمب وبوتين – اتفاق قد يُغير مستقبل أوكرانيا جذريًا.
تشكل هذه الصفقة استراتيجية ترمب تجاه الصراع الروسي الأوكراني لتكهدف إلى هدف استراتيجي محدد وهو “إضعاف أوكرانيا في لحظة حرجة”.
كان من المتوقع حال عودة ترمب إلى السلطة، أن تقوم إدارته بما يلي:
1. منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو.
2. قطع المساعدات عن أوكرانيا.
3. إجبار أوكرانيا على التنازل عن أراضٍ لروسيا من خلال تجميد الحرب على طول خط المواجهة.
وتقريبًا تحقق التوقعان الأولان، لكن الثالث ما زال يمثل تحديًا – يرفض بوتين تجميد الحرب على طول خط المواجهة لأن ذلك يعني خسارة جزء من روسيا وهو الأراضي المحتلة من مقاطعة كورسك.
ولتهيئة الظروف “للمفاوضات”، كان على ترمب ضمان استعادة روسيا السيطرة على منطقة كورسك.
ويتم ذلك عبر خطوتين حاسمتين:
الأولى: قطع المساعدات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية عن أوكرانيا:
بالفعل، وفي أسوأ لحظة ممكنة – بالتزامن مع شن روسيا هجومًا مضادًا كبيرًا في كورسك – أوقف ترامب المساعدات الأمريكية الحيوية وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا، ما أدى إلى خسائر فادحة، مع “أسوأ الخسائر في كورسك”.
الثاني: تقويض الدفاعات الأوكرانية:
أفاد جنود أوكرانيون أن القوات الروسية في كورسك “حصلت فجأة على إحداثيات دقيقة للغاية” لمواقعها ومراكزها اللوجستية ومستودعات الذخيرة. وقد أثار هذا تكهنات بتسريب معلومات استخباراتية حساسة، ربما من قِبل ممولين أو متعاطفين مع روسيا من العاملين في إدارة ترمب حاليًا.
التفسير:
مع ظهور التقارير من ساحة المعركة، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن تفوق روسيا في كورسك لم يكن محض صدفة. فقد تراجعت القوات الأوكرانية منذ ذلك الحين، وتم رفع الأعلام الروسية في مدينة سودجا التي وقعت تحت سيطرة القوات الأوكرانية في أغسطس الماضي. وبعد خسارة بلدة سودجا، لم تعد أوكرانيا تسيطر إلا على 10% من المقاطعة. وإذا ما استكملت روسيا استعادتها لمقاطعة كورسك فإن هذا سيكون بمثابة دعاية كبرى لبوتين الذي سبق وصرح بأنه “لا نية لموسكو في التفاوض مع كييف قبل الانسحاب الكامل من كورسك”، حيث يهدف بوتن لأن يكون الانسحاب الأوكراني بمثابة انتكاسة كبرى لنظيره زيلينسكي، الذي كان من أشد المدافعين عن عملية الاستيلاء على كورسك. وقد وجهت له انتقادات كثيرة من قبل المسؤولين والمحللين العسركيين الأوكرانيين الذين يأخذون عليه الدفع بحوالي 30 ألف جندي أوكراني في القتال في كورسك، بينما كان يفترض أن يدافعوا عن الأراضي الأوكرانية.
مبررات للتشكيك، فتوقيت الإجراءات الأمريكية مثير للريبة الشديدة:
1. لم تقم الولايات المتحدة بإعادة إمدادات الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية إلا بعد بدء انسحاب القوات الأوكرانية من كورسك.
2. لاحظت القوات الأوكرانية أن القوات الروسية حصلت فجأة على معلومات استخباراتية شبه كاملة عن المواقع الأوكرانية، مما يُشير إلى تنسيق مُسبق.
3. كانت وكالات الاستخبارات الأجنبية بما فيها التابعة للحلفاء الأوروبيين، مُستشهدةً بعدم موثوقية إدارة ترمب، قد قلّصت بالفعل تعاونها مع الولايات المتحدة.
قدّم الخبير الاستراتيجي العسكري المخضرم روبن هورسفول مزيدًا من الرؤى حول ديناميكيات ساحة المعركة:
1. كان احتلال أوكرانيا لكورسك في البداية بهدف محاولةً لتشتيت الانتباه لإضعاف القوات الروسية في دونباس، مما أدى إلى تقييد 30 ألف جندي روسي.
2. اعتمدت قدرة أوكرانيا على الاحتفاظ بكورسك كليًا على الاستخبارات الأمريكية، التي سمحت بشن هجمات مضادة دقيقة.
3. في فبراير 2025، زادت روسيا وجود قواتها في كورسك إلى 50 – 65 ألف جندي، استعدادًا لهجوم مضاد. ومع ذلك، كان نجاحهم رهنًا بفقدان أوكرانيا للدعم الاستخباراتي.
3. في 27 فبراير 2025 – قبل إعلان ترمب العلني – أفادت التقارير أن جنرالًا روسيًا في كورسك أخبر أحد مرؤوسيه أنهم ينتظرون انخفاض مستوى المراقبة الأوكرانية قبل شن هجومهم.
4. نُقلت هذه المعلومات عبر سلسلة اتصالات غير رسمية، ووصلت في النهاية إلى مصدر موثوق في أوروبا الشرقية.
إذا كان هذا التسلسل الزمني دقيقًا، فإنه يُشير إلى أن روسيا كانت تعلم أن ترامب سيقطع الدعم الاستخباراتي قبل حدوث ذلك. وهو ما يعتبره مراقبون دليلاً قاطعًا على خيانة مُدبّرة.
ماذا بعد؟
إن تداعيات ذلك هائلة. فهي توحي بأن مناورة ترمب عملاً تخريبيًا مُتعمّدًا، مُصممًا لإجبار أوكرانيا على قبول وقف إطلاق نار بوساطة أمريكية. إذا كان الأمر كذلك، فهي خيانة واضحة – والمشكلة أنها ليست خيانة فقط لأوكرانيا، بل أيضًا لأمن أوروبا وقيمها الديمقراطية.
في حين أن الأدلة لا تُشكل دليلًا مباشرًا حتى الآن، فإن الأنماط المُتنامية للأفعال الأمريكية وعواقبها على أرض المعركة تتطلب تدقيقًا جادًا.
يرى مراقبون دوليون ترمب بين ثلاث احتمالات:
الأول: أن ترمب بالفعل يرى مصلحة الولايات المتحدة فيما يفعله، وهو ما يتعارض مع النظام المؤسسي في بلاده، ويعرض الاقتصاد الأميركي لمهب الريح، مما يدفعه لتفكيكه وإضعافه.
الثاني: أن ترمب يفعل كل ما يحقق مصلحته الشخصية ومصالح شركاته، ولو على حساب الولايات المتحدة والشعب الأميركي.
الثالث: أن ترمب يعمل لصالح روسيا وبما يدمر الولايات المتحدة مستغلاً ضعف الديمقراطيين وتشتتهم وانقسامهم، حيث إن بوتن يمتلك أدلة تفضح ترمب على المستوى الشخصي والأخلاقي (ماسك عليه ذلة).
وبناءً على ما تقدم، أتوقع أن تعمل أوروبا على محورين:
الأول: بالتعاون مع أوكرانيا، ستعمل أوروبا على تقييم مدى جدارة الإدارة الأمريكية بالثقة، واتخاذ الخطوات اللازمة لمنع المزيد من التلاعب بمجهودها الحربي.
الثاني: تهدأة الأمور مع ترمب، ومسايرته بشكل يحيد من سلوكه المضاد. حيث ترة أوروبا أن ترمب أزاح الولايات المتحدة من صف أوروبا وأوكرانيا إلى صف روسيا متخطيًا موضع الوسط، وستحاول أوروبا على محاولة إزاحة أميركا من موقف الداعم لروسيا إلى موضع الوسط.
