معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع:
القسم الأمني والعسكري
دكتور سَــــيد غُنــــيم
زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا
رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع
الأستاذ الزائر بالناتو والأكاديمية العسكرية الملكية ببروكسل
 
الشرع أعلن مبدأين لحكمه المؤقت وهما “الشمولية” و”الاستقرار” كمبدأين إرشاديين لحكومته. ولا تزال هناك مخاوف من أن التركيز على الاستقرار قد يُركِّز السلطة بين الفصائل المتحالفة تاريخيًا مع جماعة هيئة تحرير الشام، التي كان يقودها الشرع سابقًا. ويُعدّ إشراك مختلف الطوائف والأعراق أمرًا ضروريًا لكسب الدعم الدولي. وهناك مخاوف شديدة حول بروز الشخصيات التابعة لهيئة تحرير الشام في حكومة الشرع، بما في ذلك الشرع نفسه، ولذا يُنظر لتوقعات مسار الإدارة الجديدة بشئ من التشاؤم. حيث يُسلِط المراقبون الضوء على أصولها المرتبطة بتنظيم القاعدة، ويشككون في وجود توجهات راديكالية مستمرة، بينما يُشير آخرون إلى انفصالها المُعلن عن تنظيم القاعدة، واستقرار حكمها لإدلب لأكثر من 7 سنوات، كأساس للتفاؤل الحذر.
ورغم المخاوف السابقة، اعتُبرت كوريا الجنوبية حكومة الشرع الجديدة، والمكونة من 23 عضوًا، حكومة شاملة وتقدمية. حيث لوحظ من بين الوزراء الـ23، ينتمي 7 وزراء – أي حوالي الثلث – إلى حكومة الإنقاذ السورية، بينما ينتمي المعينون الباقون إلى خلفيات متنوعة، بما في ذلك موظفون حكوميون سابقون، وباحثون، ورجال أعمال. كما لوحظ إشراك مختلف المجموعات الطائفية والعرقية في الحكومة، حيث عُيّنت هند قباوات من جامعة جورج ميسون، وهي مسيحية، وزيرة للشؤون الاجتماعية. ويُمثل الدروز والأكراد من خلال تعيين وزيري الزراعة والتعليم على التوالي. أما وزير النقل فهو ينتمي إلى الطائفة العلوية – الموالية لنظام الأسد – كما خدم وزير الاقتصاد أيضًا في عهد الأسد. ولعلّ أبرز ما في الأمر هو تعيين رائد الصالح، الذي قاد الخوذ البيضاء خلال الصراع السوري، وزيرًا لإدارة الطوارئ والكوارث.
وربما وضع صناع القرار الكوري في الاعتبار أن الشرع جدد تعهده ببناء سوريا (معتدلة) في ظل حكومة شاملة تلبي توقعات المجتمع الدولي، وربما التعيينات الوزارية الأخيرة بمثابة اختبار حقيقي لهذا التوجه السياسي، ويبدو أن التشكيل الأولي للحكومة السورية الجديدة قد لاقى استحسانًا واسعًا من المجتمع الدولي لكونه شاملًا. حيث أصدرت الحكومتان الألمانية والسعودية بيانات دعم، بينما ردّت وسائل الإعلام الدولية – بما في ذلك صحيفة نيويورك تايمز ورويترز – بإيجابية.
2. وبالبحث عن سبب توجه كوريا الجنوبية للمساعدة الإنسانية والتعاون من أجل إعادة إعمار سوريا بعد الحرب، لاحظت ان سؤول قد استندت على بيانات مهمة. حيث شل 13 عامًا من العمل المدني جزءًا كبيرًا من البنية التحتية الوطنية ونظام الحكم في سوريا. حيث يُقدر أن 90% من سكان سوريا يعيشون الآن تحت خط الفقر – أي ما يقارب 15.8 مليون شخص – في فقر مدقع، أي أن هناك حاجة ماسة هائلة للمساعدات الإنسانية. وقد انخفض دخل الفرد من 2970 دولارًا أمريكيًا عام 2010 إلى 850 دولارًا أمريكيًا بحلول عام 2022. لا تعكس هذه الأرقام مجرد تدهور اقتصادي، بل تدهورًا مُقلقًا في الظروف المعيشية الأساسية. يؤثر انعدام الأمن الغذائي الآن على 89% من السكان؛ ويعاني 13.8 مليون شخص من الجوع الحاد (حسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2025). وقد حدد الرئيس الشرع مجموعة من الأولويات الوطنية التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار في سوريا ما بعد الحرب. وتشمل هذه الالتزامات تلبية الاحتياجات اليومية للشعب السوري، وبناء هيكل اقتصادي مستدام من خلال الإنعاش الاقتصادي، وتعزيز إعادة الإعمار السريع والمنهجي لما بعد الحرب، وتعزيز التنسيق والتكامل بين الوزارات.
في ظل الأزمة الإنسانية الحرجة التي تواجهها سوريا، تُعدّ الحكومة الكورية إرسال شحنات من الإمدادات الطبية والأدوية والأغذية. ويمكن توسيع هذه الجهود من خلال التنسيق مع خبراء الإغاثة الكوريين الذين يعملون حاليًا في مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة مثل الأردن ولبنان وتركيا، إذا لزم الأمر.
وتُعد إعادة بناء البنية التحتية التي مزقتها الحرب في سوريا – والتي تضرر ما يقرب من 40% منها – الأولوية السياسية الأولى لحكومة الشرع. وعلى وجه الخصوص، فإن 70% من شبكة الكهرباء الوطنية متضررة وغير صالحة للتشغيل، ولا يزال الوصول إلى حقول النفط والغاز المحلية تحت سيطرة قوى غير حكومية. إن إعادة تأهيل خطوط إمدادات الطاقة أمرٌ مُلِحّ، لا سيما في المدن الكبرى مثل حلب وحمص وحماة ودير الزور. علاوةً على ذلك، يجب إيلاء الاهتمام أيضًا لبناء البنية التحتية الأساسية الأخرى، كالطرق والمياه والصرف الصحي والمستشفيات والمدارس. على الشركات الكورية الجنوبية أن تُمهّد الطريق للمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار هذه مع تبلورها على أرض الواقع.
3. تعهد الشرع بمعالجة القضايا الخلافية، المحلية والدولية، مثل حل النزاعات الطائفية وإدارة العلاقات مع إيران وروسيا، من خلال النهج الدبلوماسي ونهج تخفيف النزاعات.
في المقابل ترى سؤول ضرورة تعزيز الدبلوماسية الناعمة بين جمهورية كوريا وسوريا من خلال توسيع التبادلات الثقافية والتعليمية والأكاديمية. ونظرًا لاعتزاز سوريا الراسخ بكونها القلب الثقافي للعالم العربي، فإن تعزيز التبادل الأكاديمي في القطاع الخاص في هذه المرحلة المبكرة قد يُسهّل الدخول بسلاسة في تعاون سياسي واقتصادي مستقبلي بين البلدين.
4. وفقًا لأحدث استطلاع رأي أجرته مجلة الإيكونوميست في أواخر مارس، ينظر 70% من الشعب السوري إلى مستقبل بلادهم بتفاؤل، وأكد 80% من المشاركين أنهم يتمتعون الآن بحرية أكبر مما كانت عليه في عهد الأسد. وتُعد ردود الفعل من إدلب وطرطوس ذات دلالة خاصة. ففي إدلب، حيث حكم الرئيس الشرع لمدة سبع سنوات، أعرب 99% من المشاركين عن ثقتهم بحكومته. حتى طرطوس، المعقل العلوي السابق لنظام الأسد، سجلت نسبة أعلى من الردود المتفائلة (49%) مقارنة بالردود المتشائمة (23%). تشير هذه النتائج إلى تأييد شعبي واسع النطاق للحكومة السورية الجديدة. في المقابل، يُؤكد تصور الجمهور السوري لتفاقم الصعوبات الاقتصادية، كما أفاد به المستجيبون، على خطورة جهود إعادة الإعمار. وقد أبدى الشعب السوري تفضيلًا قويًا للدبلوماسية لمواجهة هذه التحديات. ووفقًا لمجلة الإيكونوميست (2 أبريل)، فضّل 90% من المستجيبين الحلول الدبلوماسية على الصراع المسلح مع إسرائيل. في ضوء ذلك، يُنظر إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية على أنها أول نجاح دبلوماسي للحكومة الجديدة، مما يُشير إلى إشارة أمل للمصالحة والمشاركة العالمية.
كما ترى سؤول أن لإقامة علاقات دبلوماسية بين كوريا الجنوبية وسوريا آثارًا مباشرة وغير مباشرة على استقرار الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط.
فسوريا، التي كانت يومًا ما محورًا رئيسيًا فيما يُسمى “محور المقاومة”، الذي يمتد بين إيران والعراق ولبنان، تُظهر الآن علامات على إعادة تقييم استراتيجي في ظل حكومتها الجديدة. ومن ثم، إذا استطاعت الحكومة السورية الجديدة الحفاظ على نهج متوازن ومستقر، وخاصةً بعد خروجها من التكتل الذي تقوده إيران، من خلال حكومتها الشاملة، فقد يُسهم ذلك في تخفيف التوترات الإقليمية المتجذرة.
وترى سؤول أن تعزيز الدعم الدولي، وخاصةً من الجهات المعنية الرئيسية، بما في ذلك جمهورية كوريا، لعملية إعادة إعمار سوريا وبناء الدولة، من شأنه أن يُخفف من حدة الانقسامات بين الكتل التي تُحدد التنافسات الإقليمية حاليًا.
إذا نجحت الحكومة السورية الموحدة في كبح جماح الصراع الطائفي والعرقي مع تعزيز بناء دولة مستقرة، فقد تكون هذه أول حالة تُحل فيها سياسات الهوية المتجذرة التي لطالما ابتليت بها منطقة الشرق الأوسط. يتطلب تحقيق هذه المصالحة، وخاصةً مع الفصائل العلوية والدرزية التي تورطت سابقًا في الاضطهاد السني، دعمًا دوليًا استباقيًا لتهيئة الظروف السياسية والمادية اللازمة. ولذا تسعى كوريا الجنوبية، من خلال جهودها الدبلوماسية الأخيرة تجاه سوريا، لأن تفتح طريقًا لمساعدة سوريا في ترسيخ الحكم المستدام والاستقرار.
وبناءً على ما تقدم، ورغم كل ذلك، فإن حالة عدم اليقين في المستقبل ما زالت قائمة أمام هذا التفاؤل الكوري الكبير، نظراً لعدم استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط بطبيعته، وخاصةً في بلاد الشام، حيث يُمكن أن يشتعل الصراع الطائفي والعرقي مجدداً في أي وقت، فإن استمرار اليقظة الدولية أمرٌ ضروري. كما أن المخاوف العالقة بشأن الرئيس الشرع ومسؤولي حكومة الإنقاذ الوطني لا تزال قائمة. ويجب أن يكون منع عودة العنف المتطرف أولويةً للمجتمع الدولي. ومن الضروري ضمان بقاء الحكومة السورية الموحدة الجديدة جهةً مسؤولةً على الساحة الدولية. ومن هذا المنظور، يُمكن تفسير إقامة علاقات دبلوماسية بين جمهورية كوريا وسوريا كجزء من الالتزام الدولي بمنع سوريا من الانحراف عن مسارها نحو بناء السلام.
وما يلفت النظر بشكل إيجابي في رؤية كوريا الجنوبية، أنها لم تذكر كوريا الشمالية في جملة واحدة، وهو ما قد يطمئن نسبياً ويهدئ أي مخاوف قد تشير لامتداد الصراع بين الكوريتين في مسرح الشرق الأوسط المشتعل أصلاً.
شارك

administrator

استشاري الأمن الدوَلي والدفاع، رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع، الإمارات العربية المتحدة، وأستاذ زائر في العلاقات الدولية والأمن الدولي في أوروبا وشرق آسيا، (مصري)