هناك تصورين وأزعم أن مصدرهما واحد وهما: أن الحرب العالمية الثالثة على الأبواب، وأن النظام العالمي القائم على القواعد على وشك الانهيار من منطلق أن قواعد النظام العالمي بدأت في التزحزح.
وسأرد بالعلم والمؤيدات المنطقية قدر المستطاع على كل منهما.
أولاً: أن الحرب العالمية الثالثة على الأبواب، أذكره بأن الحديث عن احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة، تتورط فيها تحديداً الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، ما هو إلا ضرب من المبالغة والاستسهال وفي رأيي أيضاً “الخيال المُغرض”.
فنشوب حرب عالمية ليس بالأمر السهل أو العادي، حيث يجب توفر عنصرين عسكريين هامين لها وهما تورط تحالفات دولية فيها، وليس تحالف ضد دولة، والثاني أن تنشب في عدة أقاليم ومناطق حول العالم في وقت واحد، وقس على ذلك الحرب الإقليمية مع اختلاف المستوى.
ولا توجد أي مؤشرات حقيقية لاحتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة ارتباطاً بالمفهوم الحقيقي للحرب العالمية بالتحالفات (أكرر التحالفات) التي على استعداد لخوضها.
فالحروب الساخنة المشتعلة بالفعل حاليأ لم تصل حتى لمستوى حرب إقليمية، أي حرب بين تحالفات إقليمية واضحة.. فهي إما بين دولتين (روسيا وأوكرانيا) وفيها يدعم أوكرانيا أكثر من 50 دولة ومنظمة ضد روسيا.. أو بين دولة مدعومة من القوة العالمية الأكبر (إسرائيل المدعومة من أمريكا) ضد ميليشيات مسلحة، وليست حتى ضد دولة بعينها.
لقد مر العالم بحقبات العولمة الثلاث.. حقبة العولمة الأولى والتي بدأت عام 1870 وانتهت عام 1914 مع الحرب العالمية الأولى، واتسمت بزيادة عمليات نقل البضائع والأشخاص والأموال والعمالة بين القارات وداخل بلدان القارة الواحدة.
تلاها حقبة العولمة الثانية والتي بدأت عام 1944 أي بنهاية الحرب العالمية الثانية تقريباً وانتهت عام 1971، لندخل في توقف لمدة 18 عاماً، ثم يبدا العالم حقبة العولمة الثالثة عام 1989 والتي تستمر حتى يومنا هذا.. وجميعها قبل النظام العالم الجديد الذي وضعه بوش الأب مع انهيار الاتحاد السوڤياتي عام 1991.
ورغم كل الحروب التي نشبت بعد بدء حقبة العولمة الثالثة، على سبيل المثال وليس الحصر، حرب الخليج الثانية في العراق والحرب في سراييڤو والصومال والشيشان وأنجولا وموزمبيق ووسط أفريقيا ورواندا وأريتريا في التسعينات، ثم الألفينات حرب الخليج في العراق والحرب في أفغانستان وفي نيبال ولبنان 2006 وفي أوكرانيا 2014 و2022 وجولات الحروب في غزة، ناهيك عن الحروب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن والسودان، وغيرهم الكثير من الحروب، رغم كل هذه الحروب لم تنشب حتى حرب إقليمية واحدة في العالم بالمعنى الذي تعلمناه، فما بالك بحرب عالمية ثالثة.
ثانياً: رداً على من يرى أن النظام العالمي على وشك الانهيار من منطلق أن “قواعد النظام الدولي بدأت في التزحزح ولهذا آثار واسعة على البيئة الاستراتيجية وتعريف أدوار اللاعبين الدوليين، ما
أثمر عن تغييرات مهمة في أدوار القوى الآسيوية لاسيما الصين والهند خصوصا مع تزحزح الثروة والنفوذ والاهتمام نحو آسيا وبحارها، وتعاظم القوة الصينية يوما بعد يوم يضع النظام الدولي الحالي على بداية أوضاع جديدة، ويتجه نحو صدام عالمي”
أرى الآتي:
عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية أنشأت الولايات المتحدة في وفاق مع دول غرب أوروبا ما يطلق عليه “نظام عالمي قائم على القواعد – Rules-Based Global Order” مجموعة من العلاقات العالمية المنظمة القائمة على القواعد المبنية على التحررية السياسية والاقتصادية والأممية. وبشكل أكثر تحديدًا، فإنه يستلزم التعاون الدولي من خلال مؤسسات متعددة الأطراف (مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي) ويتشكل من عدة قيم استراتيچية كالمساواة والحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، والأسواق المفتوحة، والتعاون الأمني، وتعزيز أواصر الديمقراطية والتعاون النقدي. ويعود الفضل لهذا النظام إلى توسيع التجارة الحرة، وزيادة حركة رأس المال، ونشر الديمقراطية، وتعزيز حقوق الإنسان، والدفاع بشكل جماعي عن القيم الاستراتيچية والمصالح الغربية على السواء ضد الاتحاد السوڤياتي، كما سهّل تعاونًا غير مسبوقاً بين دول أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان وكوريا وتايوان. ومع مرور الوقت، سهّل انتشار الحرية الاقتصادية إلى بقية العالم، كما ساعدت في ترسيخ الديمقراطية في البلدان الفاشية أو الشيوعية سابقاً، كما هو الحال بدول أوروبا الشرقية التي خرجت من عباءتي الاتحاد السوڤياتي وحلف وارسو إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ناتو برغبة منهم دون أدنى امل لرجوعهم لأي من عباءتهم القديمة.
أما عن الدول المتضررة من هذا النظام العالمي القائم على القواعد فهي روسيا الاتحادية ومن قبلها الاتحاد السوڤياتي والصين وكوريا الشمالية ومؤخراً إيران ودول أخرى.
ومما سبق، نجد أن الولايات المتحدة وحلفائها رسخوا هذا “النظام العالمي القائم على القواعد” إرتكازاً على تحالفات قوية متكتلة حول المصالح المشتركة وأيضاً ضد التهديدات المشتركة.
وهناك فرق بين أن النظام العالمي القائم على القواعد (مستهدف)، وبين أنه (بدأ في التزحزح).
فما هي مؤشرات التزحزح؟
لكي نقول ان النظام العالمي القائم على القواعد بدء في التزحزح يجب أن نلاحظ التغيرات الآتية:
1- زيادة الحروب العشوائية بين الدول وكثرة الحروب الأهلية كما حدث في بداية التسعينات.. والعكس هو الصحيح كما وضحت في منشوري السابق لهذا، الحقيقة أنها قلّت جدآ في الوقت الحالي مقارنة بما كان الوضع في التسعينات.
2- ظهور مؤشرات جادة للهيمنة الروسية والصينية على القرارات الدولية في مجلس الأمن.. ولكن العكس هو الصحيح. مثلاً بسبب حرب أوكرانيا، عادت واشنطن بالتعاون مع حلفائها في زيادة الضغط الشديد وفرض سبل التأثير على الدول المشاركة في التصويت على القرارات الدولية التي يصدرها مجلس الأمن الدولي أو حتى القرارات التي تصدرها الجمعية العامة للأمم المتحدة.. فقط الصين زادت من استخدام الڤيتو إسوة بروسيا، وليس الضغط من أجل نجاح التصويت لصالح قرارات دولية تصب في مصالحهم في مجلس الأمن.
3- انسحاب أو على الأقل تقليص الاساطيل الأمريكية في بحر الصين الجنوبي وشرق المتوسط والخليج مثلاً، واستبدالها باساطيل روسية وصينية وكورية شمالية وإيرانية، مع تعاظم القوة العسكرية والإقتصادية للدول الأربع أمام خفوت حاد للقوة الأمريكية والأوروبية المناظرة.. والحقيقة أن العكس هو الصحيح.
4- ظهور تحالفات عسكرية وسياسية وإقتصادية روسية/ صينية/ كورية شمالية/ إيرانية/.. مضادة للتحالفات الغربية الكائنة، مع بدء تفكك الناتو والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وغيرهم من تحالفات.. وهو ما لم ولن يحدث، ويزيد هذا اليقين يوم بعد يوم، مع زيادة ضعف الحاد في القدرات الروسية مع استمرارها في مستنقع أوكرانيا وعدم توقيع 4 من الدول ال6 الموقعة على رابطة الدول المستقلة على الاستمرار في التعاون مع روسيا، بل ونشوب حروب بين 4 منها. ودعك من الإعلام الذي أظهر اتحاد (أونلاين) مثل البريكس قوة عظمى، وهو في الحقيقة منصة خطاب لتوجيه انتقادات للغرب مع الاستفادة من الأموال السعودية والإمارات في حاويات تمويل خاصة (مصر تستخدم منصة البريكس هذه بشكل ممتاز في توجيه انتقادات قوية للولايات المتحدة وأوروبا، وفي نفس الوقت تحتفظ بأكبر قدر ممكن من المعونات المقدمة من امريكا والاتحاد الأوروبي ودول الخليج،
والتي لا تستطيع أن تقدمها الصين أو روسيا).
وأمور أخرى.
أكرر، هناك فرق بين زحزحة النظام العالمي بالتمني، وبين استهداف النظام العالمي المبني على القواعد والذي تحميه أمريكا وأوروبا بتحالفاتها وبوحدة وثبات المصالح المشتركة والتهديدات المشتركة، رغم تعارض أو على الأقل عدم وحدة الأهداف بين أمريكا وأوروبا وبين دول أوروبا نفسها.
ومنذ عام 2015 وحتى اليوم شاركت وأشارك في أبحاث كثيرة متخصصة في هذا الشأن مع اليابان وكوريا والصين وبعض دول الناتو ومع جهات في مصر، والنتيجة واحدة وهي ان النظام العالمي القائم على القواعد راسخ ومتماسك بدرجة كبيرة تكفيه للاستمرار لعقود طويلة غير محددة. التخوف الحقيقي الظاهر هو من احتمال تفكك روسيا الاتحادية بعد تفكك الاتحاد السوڤياتي والذي كان القيصرية الروسية، والذي سيشكل بحدوثه التهديد الأكثر خطورة على هذا النظام العالمي، لأن الصين ستتحرك لملئ الفراغ الأمني في روسيا المتفككة، عملا بمبدأ مجبرٌ أخاك لا بطلاٌ لأنه سيشكل عبء مخاطرة كبيرة على الصين نفسها وعلى نظامها السياسي الداخلي، وأمريكا وأوروبا في هذه الحالة سيحظوا بخازوق كبير، وهو من ضمن الأسباب إن امريكا ودول غرب أوروبا خاصةً، لا يهدفوا لهزيمة روسيا في أوكرانيا، ولكنهم يهدفوا لسقوط بوتين.