ليس على الولايات المتحدة فقط أن تتحمل نتيجة اختيار رئيسها، بل وجب على العالم كله تحمل نتيجة هذا الإختيار، حتى وإن نتج الخيار عن رئيس غير سوي مثيرا للجدل وربما عنصري ذو سياسات غير متوقعة وكما وضح في ردود أفعال دول الغرب المتقدم بالاتحاد الأوروبي، أو بطل همام قاهر للإخوان والإرهاب كما يتصوره البعض في بلادنا.
وعلى أي حال للتعرف على سياسات الرئيس الأمريكي المتتخب حديثا دونالد ترامب، وجب أولاً التعرض لأيدولوجيات السياسة العالمية التي تنتهجها الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية..
الإنعزالية: Isolationism
وقد أنتهجتها من قبل ألمانيا واليابان وسويسرا لظروف خاصة، ولكنها تعتبر اليوم الأكثر إستبعاداً من وجهة نظري لدولة مثل أمريكا، فالعالم يضيق بطريقة غير مسبوقة والانسحاب أصبح غير ممكن.
التدخل الليبرالي: liberal Interventionism
وتنتهج فكرة التدخل سواء السياسي والإقتصادي وتصل للعسكري لإسقاط ما بعتبرونه (حكومات دكتاتورية) لمنح الحريات لشعوب تلك الدول، كما حدث في العراق وأفغانستان وغيرها.. وهي سياسة مكلفة للغاية لمنهجيها سواء في الأموال والأرواح بل وتعمل على تآكل شعبية حكوماتها.. ومن أكثر الدول إنتهاجاً لتلك السياسة أمريكا في عهد جورج بوش وبريطانيا في عهد توني بلير، وأهم أدواتها العسكرية حلف الناتو ومحاولة إشراك قوة الاتحاد الأوروبي حديثة التشكيل كأداة موازية.
ثالثا: العالمية: Internationalism
وهي إستراتيجية عظمى قد لا تختلف كثيراً مع (التدخل الليبرالي) وتنتهجها الأنظمة السياسية ذات التوجه الدولي الرامي للتطبيع..
وأكبر عائق قد يقابلها هو إختلاف الثقافات بين الشعوب رغم تكرار محاولات إستيعابها.. وقد حاولت إدارة أوباما مع بدء فترته الرئاسية الأولى وديفيد كاميرون البريطاني والاتحاد الأوروبي حالياً إنتهاج (العالمية)، بل حولوا (الناتو) من أداة للعنف العسكري للنهج (التدخلي الليبرالي) إلى أداة تواصل لنهج (العالمية).
رابعاً: الواقعية: Realism
وهي الإستراتيجية السائدة الآن بين القوى العظمى وعلى رأسها أمريكا وبعض القوى الإقليمية وتختلف جذرياً مع (التدخل الليبرالي)، حيث تعتمد السياسة (الواقعية) على التفكير ليس فقط من زاوية منتهجيها ولكن من كافة زوايا الأطراف الأخرى، في محاولة للتفاعل مع إرادات دول الإهتمام وإحترام ثقافاتهم وإراداتهم دون تدخل سياسي أو عسكري حاسم قد تتسبب تداعياته في أزمات تجر لما هو أسوأ.
جدير بالذكر أنا باراك أوباما قد كان ينتهج في فترته الرئاسية الأولى الإستراتيجية (العالمية) وهو ما أعلنه شخصياً في حواره الصحفي المعروف بـ(عقيدة أوباما)، ولكنه أقتنع في نهايتها، وتحديداً في اغسطس 2013 أنها غير مجدية وعليه أن يرفع يده عن الشرق الأوسط تدريجياً وترك أمورهم لأنفسهم، متوجهاً لآسيا وأمريكا اللاتينية، منتهجاً الإستراتيجية (الواقعية).
خلال حملته اإنتخابية أعلن “ترامب” أنه سيرفع يده عن شؤؤن دول الاهتمام متفرغاً للداخل الأمريكي، فهل يعنى بذلك إنتهاجه للإستراتيجية (الإنعزالية)؟ مستحيل، فلن يترك العالم أمريكا بمصالحها ونفوذها المتشابكة دولياً معه.. أظن أن ترامب قد يستكمل ما أنتهى له أوباما من منطلق أنه لا بديل له غير ذلك الآن، كما لا يمكن الحياد عن السياسات الأمريكية العامة.
معروف أن تصريحات الحملات الإنتخابية تختلف تماماً عن الإجراءات السياسية العالمية لدولة عظمى مثل أمريكا، فهل سيمنع ترامب فعلاً المسلمين من دخول أمريكا وأن يبني سور بطول الحدود مع المكسيك لمنع تسلل المهاجرين غير الشرعيين كما وعد، وهل بالفعل يحمل برنامج سياسي إقتصادي متكامل لبلاده، علماً بانه لم يعلن عنه تفصيلياً للآن؟
رغم كره ترامب الشديد لأوباما وإدارته (فهو الرجل الذي سيحكم من خلال حبه وكرهه لمن حوله كما أعلن سلفاً كرهه لبشار وحبه لبريطانيا) إلا أنه سيضطر لإستكمال إستراتيجيته ربما مضطراً، متوجهاً نحو آسيا وأمريكا اللاتينة وربما أفريقيا، كخياراً أفضل في الوقت الحالي ولكن تدريجياً، في محاولة لإحتواء التوسع الإقتصادي الصيني (طريق الحرير الجديد) الذي يؤثر على الهدف الأمريكي المطلق وهو (الربح) والغاية القومية لها وهي البقاء كقوة عالمية منفردة، فصراعات النفوذ في الشرق الأوسط باتت غير مجدية ووجب توجيه الثقل للمسارح الدولية بإعتبارها الملاعب الرئيسية.
كما قد يتخذ قرارات حاسمة بشأن الإخوان المسلمين في الداخل أهمها إستكمال محاولة إستكمال التشريع المقترح من المرشح الجمهوري تيد كروز عضو الكونجرس عن تكساس لإعتبارهم تنظيماً إرهابياً والمنظورة في الكونجرس وربما من أجل توريط أوباما كداعم لهم، وكذا يحتمل تحركه ضد السلفيين واللوبي العربي السعودي بالداخل أيضاً.. ومن جانب آخر قد يتحرك تجاه الإسلام السياسي والإرهاب في مناطق الإهتمام بشكل غير مسبوق ولا مدروس جيداً من جانبه، مما سيثير قلق مجلس الأمن القومي الأمريكي والخارجية والبنتاجون في الداخل ودول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في الخارج حالة إقدامه على ذلك.
أما عن القضية الفلسطينية فجميع الرؤساء الأمريكيين وعدوا بالقدس عاصمة لإسرائيل ولم يفعلوا، ورغم أن تصريحات نتنياهو وبعض مسؤولي اليمين المتطرف تبدو براقة وتشعر العرب بالقلق إلا أنه صعب الحياد عن الخط الأمريكي الإسرائيلي العربي الكائن بسهولة، مع احتمال تحول تدريجي للقضية في غير موضعها المأمول.
لا شك أن العلاقات الأمريكية المصرية ستلقى اهتماماً أكبر في المجال العسكري وخاصة مكافحة الإرهاب، أما الموقف الأمريكي في العراق وسوريا وتجاه إيران والاتفاقية النووية المبرمة معها والذي يعتبر الشأن الأهم للسعودية فلن يتغير عن وضعه الحالي بسهولة لإشتراك قوى دولية عظمى فيه.
العالم الغربي ينظر لدونالد ترامب على أنه رجل أعمال متهرب من الضرائب وليس رجل سياسة على الإطلاق، ولذلك يتخوفون خطواته غير المحسوبة والمحتمل وربما لأول مرة تكون لرئيس أمريكي قرارات متخبطة بشكل واضح تحيد عن أسلوب الإدارة الأمريكي المعتاد، والذي قد يؤثر بشدة على الموقف العالمي والمصالح الأوروبية فيه.
سيد غنيم
زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا
إستشاري الأمن القومي والدفاع