في عالم مليء بالتحديات المعقدة، من الصراعات الجيوسياسية إلى عدم اليقين الاقتصادي، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى تمكين الجيل القادم بالمهارات اللازمة للتغلب على هذه القضايا وحلها. لم يعد التعليم التقليدي، الذي يركز على الحفظ النظري، كافيًا؛ بل يجب علينا تزويد الشباب بعقلية تعزز التعاطف، والابتكار، والمرونة. هذا هو المبدأ الأساسي وراء القوة التحويلية لـ التفكير الإبداعي (CT) والتفكير التصميمي (DT)، وهي فلسفة تجسدها مبادرات مثل برنامج “Kyotango Sea-Labo”. من خلال دمج هذه المنهجيات مع النهج العملي والمجتمعي لمثل هذه البرامج، يمكننا توفير إطار عمل قوي لتمكين الشباب العربي ليصبحوا عوامل تغيير إيجابي.

الإطار التحويلي: التفكير الإبداعي والتصميمي وبناء السلام

يتيح التفكير الإبداعي للأفراد التعامل مع المشكلات من زوايا جديدة، مما يولد أفكارًا مبتكرة تتجاوز الحلول التقليدية. عند تطبيقه على الصراعات، تساعد هذه المهارة الشباب على:

  • الرؤية إلى ما وراء العناوين الرئيسية: حيث يمكنهم تخيل وجهات النظر المختلفة والتجارب الإنسانية الكامنة وراء أي صراع.
  • توليد حلول بديلة: لا يقتصرون على الخيارات السياسية أو العسكرية التقليدية، بل يمكنهم ابتكار مقاربات غير عنيفة وقائمة على المجتمع لبناء السلام.
  • تنمية التعاطف: من خلال وضع أنفسهم تخيليًا في مكان المتأثرين بالوضع، يمكنهم تنمية فهم أعمق للتكلفة البشرية وتعقيد الموقف.

يكمل التفكير التصميمي (DT) هذه العملية الإبداعية من خلال نهج منظم يركز على الإنسان لحل المشكلات. خطواته الخمس الأساسية: التعاطف، التعريف، التفكير، النمذجة الأولية، والاختبار، قابلة للتطبيق مباشرة على فهم ومعالجة التحديات المعقدة. هذه العملية تنقل الشباب من الفهم النظري إلى العمل العملي؛ حيث يتعلمون أن الفشل ليس طريقًا مسدودًا، بل هو نقطة انطلاق نحو حل أفضل، مما يبني لديهم الثقة والشعور بالفاعلية الذاتية.

مبادرة “Sea-Labo”: نموذج كيوتانغوللتمكين والشراكة

يُعد برنامج “Kyotango Sea-Labo”، وهو مبادرة تعليمية للطلاب في المرحلة الإعدادية والثانوية في مدينة كيوتانغو باليابان، مثالًا قويًا وواقعيًا لتطبيق هذا الإطار. يرتكز البرنامج على التفكير التصميمي وتنمية مهارات STEAM (العلوم، التكنولوجيا، الهندسة، الفنون، والرياضيات)، ويهدف إلى تجاوز العوائق الجغرافية التي تعاني منها المدينة من خلال شراكات عالمية ومحلية، كما يسعى بشكل أساسي إلى تنمية قادة عالميين ذوي فكر إبداعي وإنساني.

هيكل البرنامج والجهات الشريكة:

يُعد هيكل البرنامج مثالًا حيًا على التفكير التصميمي؛ إذ يستمر على مدى ثلاث سنوات، ويشارك المشاركون في ورش عمل عملية (6 أيام)تركز على التعاطف، وتوليد الأفكار، والنمذجة الأولية، والاختبار. هذه الورش ليست مجرد نظرية؛ بل تم تصميمها بناءً على الاحتياجات الحقيقية للمجتمع المحلي، حيث يعمل الطلاب مباشرة مع الشركاء الصناعيين والأكاديميين.

ويُعدّ هذا البرنامج ثمرة شراكات استراتيجية مع نخبة من الجامعات العالمية (مثل تورونتو وستانفورد وكيوتو للفنون الصناعية) وشركات محلية متنوعة. ومن الأركان الأساسية في هذا التعاون، الشراكة مع منظمات غير ربحية متخصصة في تعليم STEAM، وعلى رأسها مؤسسة “Sky-Labo”.

دور “Sea-Labo” و “Sky-Labo” في كيوتانغو يكمن في:

  1. الربط بين التعليم المحلي والخبرات الواقعية: حيث يلتقي الطلاب بالعاملين في تسع شركات محلية متنوعة للتعرف على الابتكار القائم على الإنسان وإجراء مقابلات لفهم قضاياهم، مما يعالج بشكل مباشر تحدي بناء قوة عاملة يمكنها التكيف مع هيكل صناعي معقد.
  2. التعليم ثنائي اللغة: يتم التنفيذ بدعم من طلاب جامعيين دوليين، مما يعزز مهارات التواصل باللغتين الإنجليزية واليابانية.
  3. القياس الأكاديمي: يدمج البرنامج بحثًا أكاديميًا قبل وبعد الورشة لقياس التحسن في الإبداع، والثقة بالنفس، والوعي المهني، والتحصيل العلمي في مجالات

هذا النهج يهدف إلى بناء نموذج تعليمي قابل للتكرار والتطوير داخل المناهج المدرسية.

تمكين الشباب العربي: سد الفجوة بين النظرية والتطبيق

نموذج “Sea-Labo” قابل للتكيف بدرجة كبيرة ويحمل إمكانات هائلة لتمكين الشباب العربي. في منطقة غالبًا ما تتأثر بالصراعات والتغيرات الاجتماعية السريعة، يمكن لهذا النهج أن يزود الشباب بالقدرة على تحليل النزاعات المحلية والإقليمية بذكاء وإبداع.

إليك كيفية تطبيق نموذج “Sea-Labo” لدعم الشباب العربي:

  • تحليل الصراعات المرتكز على الإنسان: يمكن للشباب العربي استخدام مرحلتي التعاطف والتعريف لإجراء مقابلات مع المتأثرين بالصراعات – اللاجئين، والعائلات النازحة، وقادة المجتمع – لتجاوز الروايات المبسطة وفهم المخاوف والآمال والدوافع لجميع الأطراف.
  • حلول مبتكرة لبناء السلام: في مرحلة التفكير، يمكن للمجموعات أن تعصف ذهنيًا بحلول غير تقليدية، مثل تصميم تطبيق محمول لربط العائلات النازحة بفرص العمل، أو إنشاء حديقة مجتمعية كمساحة محايدة للحوار.
  • النمذجة العملية: تعد مرحلتا النمذجة والاختبار حاسمتين. يمكن للطلاب بناء نماذج أولية منخفضة الدقة لأفكارهم، ثم “اختبارها” من خلال طلب التعليقات من أفراد المجتمع، لتعلم كيفية تحسين حلولهم بناءً على المدخلات الواقعية.

هذا النهج يحوّل الشباب العربي من مراقبين سلبيين لواقعهم إلى عوامل فاعلة للتغيير الإيجابي. من خلال ربطهم بالشركات المحلية، والمنظمات غير الربحية (على غرار شراكة Sky-Labo)، والجامعات، يمكننا ضمان أن مشاريعهم ليست مجرد تمارين أكاديمية، بل حلول مجدية وموجهة من قبل المجتمع. وهذا يغذي عقلية ليست فقط نقدية وتحليلية، بل أيضًا مليئة بالأمل والاستباقية، مما يشكل جيلًا من القادة على استعداد لتصميم مستقبل أكثر سلامًا وازدهارًا لمجتمعاتهم.

وكما تهدف كيوتانغو إلى أن تصبح مدينة نموذجية عالمية للتعليم المستدام والابتكار الاجتماعي، يمكن تكرار هذا النموذج في
جميع أنحاء العالم العربي من خلال تعزيز ثقافة التفكير الإبداعي والتصميمي، لتمكين الجيل القادم ليكون مهندسًا لمستقبله.

د. حسين زناتي
٤ أكتوبر ٢٠٢٥

مجلس خبراء التعليم المبتكر والتدريب والتفكير الإبداعي
معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع (IGSDA)

شارك

الدكتور حسين زناتي، الحاصل على درجة الدكتوراه، هو خبير مرموق في مجال الابتكار التعليمي وأحد أبرز الشخصيات في تعزيز التعاون الدولي بين اليابان والشرق الأوسط. حصل على درجة الدكتوراه في هندسة تكنولوجيا المعلومات من جامعة كيتامي في اليابان، وعلى درجة الماجستير في التربية من جامعة هايدلبرغ في الولايات المتحدة الأمريكية.