ارتكازات القوة المصرية
تحتل مصر دولة تحتل موقعاً جيوستراتيجياً مميزاً يحقق قدرات تجعل منها عنصراً شبه ثابتاً في صياغة السياسات الإقليمية والدولية حربا وسلماً. وقد حقق لها ملتقاها الآسيوي الأفريقي مكانة خاصة في العالم، وجعلها دولة مفصلية بين منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالإضافة إلى إطلالها على أهم بحرين يربطا العالم وهما البحر الأحمر والبحر المتوسط. في تقديري ترتكز القوة المصرية على أركان رئيسية أهمها:
موقع جيوستراتيجي فريد يحتضن قناة السويس التي تصل بين البحر الأحمر والبحر المتوسط.
تراث مصر الثقافي والتاريخي حيث يتواجد بمصر أكبر واقدم مؤسسة إسلامية “الأزهر” وكذا أقدم كنيسة قبطية أرثوذكسية وكلاهما يعتبر مراكز دينية إقليمية.
قوة بشرية تشكل أكثر من ربع سكان المنطقة العربية، حوالي 60 ٪ من سكان مصر هم من الشباب، 50 ٪ منهم يعيشون في القرى ، لديهم رغبة كبيرة في الحرية والديمقراطية والفنون والإبداع و تشغيل المشاريع الصغيرة والصغيرة.
قوات مسلحة قوية يصعب تقسيمها إلى فصائل، وهي تعمل حالياً على تعظيم قزتها والإرتقاء بأدائها ومدى احتراف أفرادها، وبما يحقق القدرة على حفظ التوازن العسكري الإقليمي والردع.
قوة دبلوماسية مدعومة بمشاركة في تحالفات وشراكات دولية وإقليمية مهمة.
اقتصاد متنامي ومتنوع يتوقع قوة شرائية كبيرة، فضلاً عن تبوادر تحول مصر إلى مركزًا إقليميًا للطاقة يدعم السياسة الخارجية للدبلوماسية المصرية.
وكُلَّمَا تم محاولة تهميش مصر وتجاهل ارتكازات قوتها، أتي من ينفُض عنها هذا مُجَدِداً قوتها لتعود بسرعة لدورها الفعال، وتلاحظ ذلك عبر العصور بدءً بمصر القديمة قبل الميلاد ووصولاً إلى الأُسرة العلوية، حيث تجدهم جميعاً إستقروا وحكموا بها، مُكتشفين في مصر مفاتيح كافة المناطق التي حولها.
مفاتيح مصر الإستراتيجية
ومن ثم، تُعتبر مصر صِمَام أمان لأوروبا وشمال وشرق أفريقيا والشرق الأوسط، فهي تجمع بين كونها دولة المصالح وكف الأذي، فتقف مصر سداً أمام التمدد السرطاني للإرهاب، حيث تبذل الكثير من المساعي والجهود لتقزيمه ووقف تقدمه صوب شمال أفريقيا وشرق المتوسط إلى أوروبا.. ومن ناحية أُخري، تعمل مصر على احتضان اللاجئين ومنع تدفقهم شمالاً وغرباً أيضاً. ليستجد عليها منطقة هامة ضمن نطاقات أمنها وهي المنطقة البحرية الغنية بالغاز الطبيعي “شرق المتوسط”.
في مقدمة بعنوان “مفاتيح مصر الإستراتيجية”، والتي تصدرت كتابه الشهير “سيناء في الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا”، قال د. جمال حمدان “غير أن أركان مصر الإستراتيجية لا تكتمل إلا إذا اعتبرنا أطراف المعمور الدقيقة لا تربط جسمه الأساسي بالعالم الخارجي المحيط: سيناء في الشمال الشرقي، مرمريكا في الشمال الغربي والنوبة في الجنوب. وكلٌ منها بوابة لمصر”. وقال أيضاً د. حمدان في مقدمة كتابه، “ولكن هذه البوابات تتفاوت إلى أقصى حد في أهميتها، وخطرها الإستراتيجي. وقد نعبر عن هذا التفاوت تعبيراً دالاً ومكلفاً إذا اعتبرنا سيناء البوابة الأمامية، ومرمريكا البوابة الجانبية، والنوبة البوابة الخلفية”. حيث تقع شبه جزيرة سيناء، والتي وصفها د. جمال حمدان بـ”البوابة الأمامية لمصر” في الجزء الشمالي الشرقي من جمهورية مصر العربية والمتاخم للحدود البرية مع قطاع غزة وإسرائيل كما تطل جنوباً على خليج عدن المشارك في مياهه الإقليمية مع السعودية والأردن وإسرائيل، وعلى خليج السويس داخل الحدود المصرية. وتقع النوبة “البوابة الجنوبية لمصر” في أقصى الجنوب المصري، وهي حالياً المنطقة التي تشمل جنوب مصر وشمال السودان على طول نهر النيل. وفي الشمال الغربي نجد مرمريكا “البوابة الجانبية لمصر”، والتي على حد وصف د. جمال حمدان “تختنق مرمريكا مريوط بين البحر ومنخفض القطارة عند هضبة الرويسات ومنطقة العلمين لتؤلف مضيقاً كالعنق من أخطر وأمنع المداخل”. وأشار د. حمدان إلى ضرورة ملاحظة أن الإسكندرية وبورسعيد (مؤخراً) يُعدا مفتاحاً أكثر أماناً خلف بوابة الشرق (الأمامية) بوابة الغرب (الجانبية).
الاتجاهات الإستراتيجية المصرية
حديثاً وضع المخططون الإستراتيجيون ثلاث اتجاهات إستراتيجية رئيسية محددة لمصر، وهي الاتجاه الإستراتيجي الشمالي الشرقي ويمثله شبه جزيرة سيناء. والاتجاه الإستراتيجي الغربي ويمثله المنطقة بين الضبعة شرقاً والسلوم غرباً على الحدود الغربية المصرية مع ليبيا، وجنوبا حوالي 400 كم حتى الواحات. والإتجاه الإستراتيجي الجنوبي ويمثله جنوب مصر وصولاً للحدود المصرية السودانية وغرباً مع الجزء الجنوبي من الحدود مع ليبيا.
أثناء أولى مشاركاتي الأكاديمية والبحثية مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) خلال مؤتمر أمن الطاقة بالبيئة البحرية الذي عُقد في الأسبوع الأول من شهر يونيو 2015 بمركز تدريب العمليات البحرية التابع للحلف، والمتواجد بجزيرة كريت باليونان، حيث كان تركيز المؤتمر على أمن الطاقة في البيئة البحرية بمنطقة “شرق المتوسط”. تلك المنطقة التي تعتبر ضمن أهم وأخطر مناطق للصراع المحتمل دولياً. ومن وقتها كنت قد وضعت من وجهة نظري اهتماماً خاصاً نحو ما يمكن تسميته بـ “الإتجاه الإستراتيجي الشمالي” لمصر، والذي يجب أن يمتد لأقصى مدى للمجال الحيوي الشمالي للبلاد، متضمناً عمق المياه الإقليمية المصرية في البحر المتوسط، وبل وممتداً لعمق المياه الإقتصادية المصرية أيضاً، باعتبارها منطقة تحمل تأثير مباشر وشديد على البوابة الجانبية المصرية ومفاتيحها الإستراتيجية والتي لا تنحصر حديثاً في بورسعيد والإسكندرية فقط ولكنها قد تمتد لعدة مدن رئيسية شرقاً وغرباً على ساحل البحر المتوسط. وقد أشرت في عدة لقاءات دولية لأهمية هذا الاتجاه في كافة مجالات الأمن القومي لمصر ولجيرانها الساحليين وكذا لدول جنوب شرق أوروبا المطلة على البحر المتوسط. وأوصي دائماً بأهمية رفع مستوى التنسيق والشراكة مع دول أوروبا شرق المتوسط، خاصة مع تزايد الأهداف الإستراتيجية المشتركة الواجب تأمينها شرق المتوسط والتي لا تنحصر في حماية الموارد الإقتصادية ومكافحة الإرهاب فقط، بل قد تمتد لمصالح عدة في مجالات أخرى متنوعة.
جيوإستراتيجياً، تُعد مصر، أهم دول “الحوار المتوسطي” السبع المُطلة على البحر المتوسط، شريك حلف شمال الأطلسي (ناتو) منذ عام 1994. وأظن أن مصر وحتى فترات قريبة لم تستغل هذه الشراكة بشكل جيد مقارنة بأربع دول خليجية (الإمارات والكويت والبحرين وقطر) الذين دخلوا في شراكة مع الحلف فيما سمي بـ (مبادرة إسطنبول للتعاون)، وذلك عقب مصر بعشرة أعوام. إلا أن هذه الدول قد حققت مكاسب كبيرة من هذا التعاون وربما بما يوازي عقود. ولا يغيب عن أي مخطط سواء سياسي أو عسكري أن الساحل المصري الواصل من رفح إلى السلوم يعتبر الساحل الأكبر مواجهة والأكثر تماسكاً جنوب شرق المتوسط، وذلك مقابل الساحل التركي شمال شرق المتوسط، خاصة مع تغير خريطة الأحلاف واحتمالات خروج تركيا من حلف الناتو.
الاتجاه الاستراتيجي والعمق الاستراتيجي
الاتجاه الإستراتيجي يتضمن نطاقات مسؤولية وجب تأمينها من كافة التهديدات والمخاطر المحتملة أو الواقعة عليه من الخارج أو الداخل. أما العمق الإستراتيجي فقد يكون داخل الدولة أو قد يكون خارجها مُمثل في دولة أو دول أخرى محيطة تضمن أمن كل منها أو تحقق التأمين المتبادل بين كل دولة والدولة التي تمثل لها العمق الإستراتيجي. ومن ثم، وكما تمثل سوريا عمقاً إستراتيجياً شمالياً شرقياً لمصر، وتمثل دول الجزيرة والخليج العربي عمقاً إستراتيجياً شرقياً، وتمثل ليبيا عمقاً إستراتيجياً غربياً، وتمثل السودان حتى القرن الأفريقي وباب المندب عمقاً إستراتيجياً جنوبياً، أرى أن قبرص واليونان وإيطاليا والمنطقة البحرية شرق المتوسط يمكن أن يمثلوا لمصر عمقاً إستراتيجياً شمالياً لا يقل عن الأعماق الإستراتيجية الأخرى أهمية.
رابع الاتجاهات الاستراتيجية يضمان خماية الأمن القومي المصري
إقتصادياً، لا شك أن البحار تمتلك أهم وأكثر الموارد الطبيعية، كما أنها تمثل للبلاد المطلة عليها بواباتها التجارية والاقتصادية لكافة أنحاء العالم، كما أن البحار تحقق النفوذين السياسي والأمني الحقيقيين. ومن ثم، أتصور أن الظروف الحالية والمتوقعة قد تتطلب إدراج “شرق المتوسط” كرابع الاتجاهات الإستراتيجية المصرية بصفته (الاتجاه الإستراتيجي الشمالي)، وكل ما يلزم ذلك من إجراءات.. وبالتوازي مع التنمية في شبه جزيرة سيناء، أرى ضرورة تنمية وتطوير الساحل الشمالي من بورسعيد إلى السلوم خاصة المناطق غير المأهولة منها.. وكذلك أرى ضرورة تفعيل الشراكات المصرية الإقليمية والدولية على الاتجاه الإستراتيجي (الشمالي)، وإنشاء شراكات جديدة وتفعيل التحالفات القائمة والتي تُعد داعمة لهذا الاتجاه الهام.. وفي إطار التمثيل الكامل بين الناتو ومصر والذي يُعد تطويراً هاماً في طبيعة الشراكة بين مصر والحلف، أقترح تعظيم سبل التعاون بينهما ليماثل حجم التعاون مع دول مبادرة إسطنبول (والتي تتضمن دول الخليج الأربع) بل ويزيد ولو مرحلياً.
تطوير سبل التعاون مع حلف شمال الأطلسي (ناتـــو)
ولتعظيم سبل التعاون والشراكة بين مصر والناتو يمكن تطوير التعاون الأكاديمي ليكون بين الأكاديميات الإستراتيجية العليا المتخصصة بمصر والحلف.. وزيادة حجم التعاون ليشمل المجالات البحثية والتدريبية، وكذا المعلوماتية في مجالات مكافحة الإرهاب والتطرف، والهجرة غير الشرعية والجرائم العابرة للحدود وغيرها.. كما يمكن التعاون المعلوماتي مع مركز تجميع وتحليل المعلومات والدراسات الأمنية والسياسية لحلف شمال الأطلسي “الناتو” والمنشأ حديثاً بنابولي والمعروف بالمحور الجنوبي – Southern Hub.
التحالفات والشراكات المصرية
أعتقد أن نظرة السياسة الخارجية المصرية تجاه مفهوم “التحالفات والشراكات الدولية” في تطور مستمر ارتبطاً بضرورة العمل في إطار أهداف ومصالح إقليمية ودولية سواء مشتركة أو متبادلة بالمعنى الحقيقي. وهو أمر يتحقق بتحديد الأهداف الإستراتيجية المصرية على الصعيدين الإقليمي والدولي بدقة، وتحديد من يستطيع أن يحققها معنا ومن لا يستطيع، وأيضاً تحديد من قد يحاول إعاقة تحقيقها. وبناءً عليه وعلى عدة أسس واعتبارات أخرى، تُبنى التحالفات والشراكات التي تحتاجها مصر. ومن هنا يكون التحول من حالة الخوف وعدم الثقة في الآخر، إلى حالة الثقة والثبات والمقدرة على التواجد الدبلوماسي الدولي والإقليمي بقوة، والذي يعد من أهم الدعائم الأربع للدولة المستقرة (غير الهشة).
أكثر سؤال يدهشني تلقيته كثيراً هو “هل تعتقد أن الولايات المتحدة أو أوروبا أو الصين أو روسيا دول تعمل لمصلحة مصر؟”.. وإجابتي المباشرة تكون “ولمذا من المفروض على أي دولة أن تعمل لمصلحة دولة أخرى؟ هل مصر طفل قاصر يحمل حقيبة الدراسة وحافظة الغذاء وتحتاج وصي يعمل لمصلحتها ويحميها من الأشرار؟” بالطبع لا، حيث تبنى الشراكات والتحالفات على مدى إدراك أطرافها لأهدافهم ومصالحهم وتحدياتهم جيداً، وإدراكهم لمصالح وتحديات حلفائهم أيضاً حتى ولو كانوا أعداء سابقين، وكيفية تركيز الجهود لتحقيق المصالح المشتركة بينهم.
ســـيد غنيــم