في زمنٍ يتسم بالاضطرابات الجيوسياسية والمشاكل العالمية المعقدة، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى تزويد الجيل القادم بالأدوات اللازمة لإدارة الصراعات وجعل العالم مكانًا أكثر سلامًا. ببساطة، لم يعد تدريس المعلومات التاريخية أو النظريات السياسية كافيًا. يجب علينا تزويد الشباب بمجموعة جديدة من المهارات التي تعزز التعاطف والابتكار والمرونة. وهنا تبرز أهمية التفكير الإبداعي (CT) والتفكير التصميمي (DT). فبعيدًا عن كونها أنشطة “فنية” بحتة، تقدم هذه المنهجيات إطارًا قويًا لتحليل وفهم، وفي نهاية المطاف، تحويل سيناريوهات الصراع القاسية.
أهمية التفكير الإبداعي و التصميمي لعقلية الشباب
التفكير الإبداعي هو القدرة على النظر إلى المشكلات من زوايا مختلفة وتوليد أفكار جديدة. إنه يتعلق بالتحرر من أنماط التفكير التقليدية واحتضان التفكير المتشعب. بالنسبة للشباب، هذا يعني أنهم ليسوا مجرد متلقين سلبيين لما يحدث في العالم، بل هم باحثون نشطون للمشكلات. عند تطبيقه على تحليل الصراعات، يتيح لهم التفكير الإبداعي ما يلي:
- النظر إلى ما وراء العناوين الرئيسية: بدلاً من قبول رواية واحدة على ظاهرها، يمكنهم تخيل وجهات النظر المختلفة والتجارب الإنسانية الكامنة وراء الصراع. بالإضافة إلي استخدامات مهارات البحث والاستدلال.
- تطوير حلول بديلة: لا يقتصرون على الخيارات العسكرية أو السياسية التقليدية. يمكنهم تخيل مسارات مبتكرة، وغير عنيفة، وقائمة على المجتمع لبناء السلام.
- تنمية التعاطف: من خلال وضع أنفسهم تخيليًا في مكان الأشخاص المتأثرين بالصراع، يمكنهم تطوير فهم أعمق للتكلفة الإنسانية وتعقيد الموقف.
يأتي التفكير التصميمي ليكمل هذا النهج من خلال تقديم عملية منظمة ومتكررة لحل المشكلات. إنه نهج يركز على الإنسان من خلال الخطوات الخمس الأساسية للتفكير التصميمي: التعاطف، والتعريف، والتفكير، والنمذجة، والاختبار، قابلة للتطبيق مباشرة على تحليل الصراعات:
- التعاطف (Empathize): يتعلم الشباب البحث وفهم احتياجات ومخاوف ودوافع جميع الأطراف في الصراع، وليس طرفًا واحدًا فقط. الأمر كله يتعلق بالاستماع العميق والتواصل الحقيقي.
- التعريف (Define): يقومون بتجميع رؤاهم المستمدة من التعاطف لتحديد المشكلة الأساسية التي يريدون معالجتها. هذا ينقلهم من المفاهيم العامة مثل “إنهاء الحرب” إلى تحديات محددة وقابلة للتنفيذ مثل “كيف يمكننا إنشاء مساحة آمنة للحوار بين المجتمعات المتنازعة؟”
- التفكير (Ideate): هذه هي مرحلة توليد الأفكار، حيث يبتكرون مجموعة واسعة من الحلول المحتملة دون إصدار أحكام.
- النمذجة والاختبار (Prototype & Test): يقومون بإنشاء نماذج مادية صغيرة الحجم أو خطط لأفكارهم واختبارها مع أشخاص حقيقيين. تسمح حلقة التغذية الراجعة السريعة هذه بالتعلم من الفشل وتحسين الحلول، مما يبني عقلية مرنة وقابلة للتكيف.
من خلال هذه العملية، ينتقل الشباب من المعرفة النظرية إلى العمل الفعلي. يتعلمون أن الفشل ليس طريقًا مسدودًا، بل هو نقطة انطلاق نحو حل أفضل. وهذا يمنحهم الثقة والشعور بالفاعلية الذاتية، مما يمكّنهم من الإيمان بأنهم يمكنهم حقًا إحداث فرق في العالم.
التفكير الإبداعي والتصميمي في العمل: مبادرة “أصحاب” (ASHAP)
تعتبر مبادرة “أصحاب” (ASHAP)، “الجميع يشارك الإنسانية والسلام“، التي صممها الكاتب في عام ٢٠١٨ في اليابان، مثالًا قويًا على كيفية تطبيق التفكير الإبداعي والتصميمي لتعزيز المساهمة الاجتماعية. في حين أن هذه المبادرة ليست برنامجًا واحدًا معروفًا على نطاق واسع، إلا أن مبادئها تعكس نهجًا شائعًا وفعالًا لتمكين الشباب.
تخيل مجموعة من الطلاب يشاركون في ورشة عمل لـ“أصحاب” تركز على صراع مجتمعي محلي، على سبيل المثال، حول مورد عام أو مساحة عامة. لن يُطلب منهم ما يفكرون فيه. بدلاً من ذلك، سيتم توجيههم خلال عملية التفكير التصميمي:
١- التعاطف: سيجرون مقابلات مع أشخاص من جميع جوانب النزاع، سكان، وأصحاب أعمال، ومسؤولين محليين، لفهم وجهات نظرهم الفردية واحتياجاتهم ومخاوفهم. وذلك من خلال حوار مفتوح للبحث بشفافية وشغف وتحليل لجميع الأراء.
٢- التعريف: سيستخدم الطلاب خرائط التعاطف الخاصة بهم لوضع بيان مشكلة واضح، على سبيل المثال، “كيف يمكننا إنشاء مساحة عامة مشتركة تخدم كلاً من التجارة والتجمع المجتمعي؟“
٣- التفكير: سيقومون بابتكار أفكار، من سوق للمزارعين إلى حديقة مجتمعية أو مهرجان فني يقوده الشباب. سيستخدمون تقنيات العصف الذهني الإبداعية مثل أسئلة “كيف يمكننا؟” لدفع تفكيرهم.
٤- النمذجة: قد يصنعون نموذجًا للمساحة من مواد يدوية، أو يصممون نموذجًا رقميًا، أو حتى ينظمون حدثًا وهميًا لاختبار أفكارهم، أو تجسيد المشكلة في شكل درامي.
٥- الاختبار: سيقدمون نماذجهم الأولية لأفراد المجتمع، ويطلبون منهم التعليقات، ويعدلون تصميماتهم بناءً على التعليقات التي يتلقونها.
تساعدهم هذه العملية على إدراك أنه لا يوجد جواب واحد “صحيح”، وأن الحلول الأكثر فعالية غالبًا ما يتم تصميمها بالتعاون مع المجتمعات التي يخدمونها. يتعلمون تقدير التعاون وإدراك أن السلام ليس مجرد غياب الصراع، بل هو حالة من الرفاهية يتم تصميمها وصيانتها باستمرار من أجل المجتمع. وهكذا، ينتقلون من كونهم متلقين سلبيين لأمراض المجتمع إلى عوامل فاعلة للتغيير الإيجابي بمصداقية وإبداع وموضوعية وهذا يغذي وعيًا ليس فقط نقديًا وتحليليًا، بل أيضًا مليئًا بالأمل والاستباقية، مما يشكل جيلًا قادرًا على الاستجابة لتحديات عالمه.
د. حسين زناتي – اليابان ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٥
مجلس خبراء التعليم المبتكر والتدريب والتفكير الإبداعي
معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع (IGSDA