دكتور سَــــيْد غُنــــيْم دكتوراه العلوم السياسية زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا، ورئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع

 
“تلك هي التغيرات في الديناميات الأمنية”
ورقة طُلبت مني أمس وقررت نشرها اليوم
هل تتناقض المواقف السعودية؟
في 27 فبراير 2023، وفي زيارة تُعد الأولى من نوعها.. قام وزير الخارجية السعودي بزيارة كييف وتوقيع اتفاقية بـ400 مليون دولار، مقابل ترحيب أمريكي. وهو ما دفع بعض المحللين في المنطقة للوصول بأقصى سرعة ونتاج الفكرة المسيطرة على الأذهان وهي أن أمريكا تهيمن على القرار الخليجي، وأن زيارة بن فرحان لكييف بتعليمات من واشنطن، فلا شك أن هذا الترحيب الأمريكي بدوره يزعج روسيا.
بعدها بأيام قليلة، وفي إطار جولة دبلوماسية لموسكو، أكد وزير الخارجية السعودي الذي قام بالزيارة بنفسه أيضاً، أن السعودية جاهزة للقيام بما يلزم لحل الصراع في أوكرانيا، ومستعدة لتسهيل الحوار بين موسكو وكييف. ومن جهته قال وزير الخارجية الروسي إن موقف السعودية من الأزمة ليس محدوداً بتبادل الأسرى، وإن موسكو تؤكد حرصها على التعاون مع السعودية في كل المجالات. وهو بالتأكيد امر بدوره يزعج الولايات المتحدة.
وكأن الرياض تعبر عن موقفها من خلال زيارتين سريعتين خلال فترة وجيزة للغاية لعاصمتي دولتين في حالة حرب، لإظهار المسافة الواحدة بينهما التي تقف فيها.. ليس هذا فقط، ولكن الرياض أيضاً بزيارة وزير خارجيتها لكييف تعاقب موسكو على الصفقة التي أجزتها إيران مع روسيا لشراء مقاتلات من طراز “سو-35” والتي كان من المفترض أن تشتريها مصر ولكن مصر الحليف الرئيسي للولايات المتحدة خارج الناتو كانت قد تراجعت عنها.
كما تريد أيضاً السعودية تأكيد فكرة خروجها، ولو بنسبة، عن عباءة الولايات المتحدة، والتي بدأتها خلال العقد الماضي وتزيد منها خلال هذا العقد.
رفع الآمال
وفي نفس السياق، في الوقت الذي تضع فيه السعودية شروطاً أهمها التزام الولايات المتحدة بدعم تطوير البرنامج النووي السلمي السعودي مقابل التطبيع مع إسرائيل برعاية أمريكية، تعلن تطبيعها الشامل والسريع مع إيران برعاية صينية. وهنا، وكالعادة، ظهرت التحليلات التي لم ترى بحثاً لمدة خمس دقائق، والتي استنتجت، أفول الولايات المتحدة، وقيادة الصين للعالم، ونصرة الإسلام في اتحاده أمام أهل الباطل، وأن إسرائيل الطفل المدلل للولايات المتحدة تلقت صفعة قوية، والكثير من الآراء التي تتضمن مجموعة من القول المرسل المعتاد في هذا الشأن.
وكنت قد ذكرت منذ عام ونصف خلال محاضرتي عبر زووم مع مركز دراسات صيني تابع للخارجية الصينية، أن التطبيع مع إيران والذي كنت قد أطلقت عليه مجازاً (الاتفاق الإسماعيلي)، والذي تشرع الصين في تبنيه ارتباطاً بمبادرة السيد/ وانج يي وزير الخارجية الصيني السابق “حوار اليجي إيراني متعدد الأطراف”، سيكون في وضع مواجه لـ “الاتفاق الإيراهيمي” المرتبط بالتطبيع مع إسرائيل.
أرض الواقع
ومن ثم، يجب أن نرى الصورة بشكل أكثر وضوحاً، وهو أن العلاقات بين الدول لم تعد أيديولوجية بين معسكرين متضادين (ذو لونين وحيدين أبيض وأسود)، وكل دولة عظمى تقود معسكر يتضمن حلفاء محددين ينتمون لأي من اللونين إما أبيض أو أسود. ولا أن العلاقات الدولية غامضة ذات ألوان باهتة، ولكنه عالم متعدد الرؤى والتوجهات والأهداف وكل له أهدافه، عالم متعدد الأقطاب تقوى فيه دول عظمى وتتقلص بعضها، وتتعاظم فيه قوى إقليمية في محاولة لأخذ موضع بين الدول العظمى وأخرى تتقوقع في محيطها. ولذا أتعجب لدول كبرى ومتوسطة وصغرى تدعوا للتوجه نحو عالم متعدد الأقطاب رغم أنه تعيش هذا العالم بالفعل وبشكل غير مسبوق. الحقيقة أن هذه الدول التي ترى العالم ذو قطب واحد، هي دول تزداد ضعفاً وضموراً ارتباطاً بتضائل قوتها ونفوذها بشكل سريع وكبير مقابل نمو منافسيها بشكل طبيعي.
وقد ذكرنا صديق طبيبي ممن يفكروا ويتذكروا، أن مدة قطع العلاقات السعودية الإيرانية لا تتعدى عمر طفلاً لم يتجاوز السبع سنوات، وأن السعودية وإيران بينهما اتفاقيات موقعة رسيماً، سياسية وأمنية بل وفي مجالات الرياضة الإقليمية، ومن ثم ما حدث الآن ما هو إلا هدف للرجوع لوضع طبيعي سابق، وإن كان مشتعلاً في داخله كالبركان.
واتفق مع صديقي الطبيب في رأيه بشان أن رغم التطبيع السعودي مع إيران فإن مواقفهم الدولية تجاه بعضهما في الأمم المتحدة رسمياً لن تتغير، خاصة السعودية، سواء في التصويت على العقوبات ضد إيران بصفتها دولة مارقة أحياناً ولو من وجهة النظر الأمريكية، كما أن الرياض هي من وقع مع واشنطن اتفاقاً يُعد الأهم هو بشأن إنشاء أنظمة الجيل الخامس لتكنولوجيا الاتصالات، بخلاف الإمارات التي وقعت نفس الاتفاقية من قبل ولكن مع الصين. وهو بالتأكيد ضربة موجعة من الرياض لبكين التي تخسر أحد أهم وأكبر الاستثمارات وأدوات النفوذ التكنولوجية في دولة تقود أوبك+ صاحبة ضمان أهم هدفين للصين (الطاقة والتجارة الخارجية).
وسياسياً، وكما ذكرت من قبل، أن السعودية التي وقعت على عودة العلاقات مع إيران هي من تسير في اتجاه التطبيع مع إسرائيل وتضع الشروط لذلك. ناهيك عن أن السعودية هي من فتح المجال الجوي السعودي أمام رحلات الطيران الاسرائيلية والتي ستوفر عليها المال والوقت الكبيرين، وتفتح مشروع نيوم ومشاريع اخرى كبيرى للجميع شرقاً وغرباً.
أتذكر أحد أولى محاضراتي في جامعة طوكيو باليابان عام 2108، حيث طرح رؤيتي بشأن الفرق بين سياسات الولايات المتحدة والصين وروسيا في مواجهة تهديدات الحلفاء أو الشركاء، حيث أتصور أن الولايات المتحدة قد تتعامل مع تهديدات حلفائها بالقوة في إطار استراتيجية التوازن فيما وراء البحار، وأن روسيا تحتوي التهديدات والخصوم والمتنافسين وتبقيهم على أوضاعهم ثم تدير الصراعات والتنافس بينهم وبما يحقق لها السيادة وكامل المصلحة، أما الصين فمختلفة تماماً، فهي تعتمد على سياسة الاحتواء المزدوج أو المتعدد شريطة التوافق بين المتنافسين والخصوم، وهو ما يبدوا أنه يعود لسياسة الصين السلمية، ولكنه أيضاً يعود لعدم رغبة الصين في خوض صراعات من اجل شركائها ولا إدارة صراع بينهم، والذي يرتبط بمدى خبرة الصين في التورط في مثل هذه الممارسات في الشرق الوسط.
الواقع أن التقارب العربي الإسرائيلي المتزايد والذي يزعج إيران لا يتوقف وإن كان بطيئاً، والتقارب العربي الإيراني والذي يزعج إسرائيل، لابد منه.. وإلا لن تأمن الطاقة ولن تأمن المسارات الملاحية، وستتعاظم الصراعات الإقليمية والحروب الأهلية، ويزيد المحاربين بالوكالة خاصة الجماعات المسلحة غير الحكومية ما بين الإرهاب والتطرف العنيف وبين المدافعين عن أراضيهم ومن يطمعون في السلطة، ويزيد العنف وتضيع آمال الاستقرار بين هذا وذاك.. وكل هذا يمثل الضرر الحقيقي للدول الكبرى، سواء الصين أو الولايات المتحدة أو أوروبا، دون تفرقة.
تصعيد التنافس الدولي وتغير خرائط التحالفات
لا شك أن التنافس الجيوستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين يتصاعد إلى درجة التهديد المتبادل في مجالات متعددة، بدءً من اقتصادياً ثم سياسياً، والذي يصل مع الوقت إلى عسكرياً من خلال سباق التسلح والضغوط المتبادلة من خلال التحركات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.
الصين في مبادرتها الدبلوماسية لتحقيق التطبيع السعودي الإيراني تظهر أهم ارتكاز قوة لها مقارنة بالولايات المتحدة، وهو علاقاتها مع طهران شريك بكين شديد الأهمية، مقابل طهران عدو واشنطن، ومن ثم، نجد أن بكين تمتلك المصداقية مقارنة بواشنطن التي تنعدم الثقة بينها وبين طهران. ولك أن تقارن بين سياسة واشنطن في التعامل مع تهديدات حلفائها وبين سياسة بكين في التعامل مع تهديدات شركائها.. شتان، وهو ما تستفيد منه الصين الآن.
وفي النهاية، ربما علينا ألا نتجعل الأحكام وضرب الاستنتاجات، لأنه بالتأكيد، ليس فقط خريطة التحالفات تتغير، ولكن التحالفات الإقليمية نفسها تتغير أو يعاد تشكيلها أو على الأقل تتوقف وينعدم نفوذها وتضمر مصادر قوتها، الشرق الأوسط في طريقه إلى إعادة تشكيل التحالفات، والولايات المتحدة والصين يعلما ذلك ويشاركا في صياغتها، ولكن كل يحاول أن يشارك في تشكيلها بأدواته وبآلياته، والقوى الفاعلة في المنطقة هي المحرك والصانع الرئيسي لتلك التغيرات الأمنية الجديدة، في وقت تتمنى فيه موسكو أن يزورها رئيس دولة مثل بوركينافاسو أو رئيس دولة مثل جيانا، معلنين دعمهم لموسكو في حربها الضروس ضد كييف.
النتائج المحتملة
يبدو بأن هذه الخطوة قد تفتح مجالاً لتهدئة التوتر ما بين المملكة وإيران بشكل عام. ولكنها من جهة أخرى تبدو نتيجة لجهود مستمرة من قبل الصين، أكثر من كونها رغبة من قبل أى من الجانبين السعودي والإيراني. فبالرغم من أن هناك مساعي لعديد من دول المنطقة للوصول إلى تقارب بين البلدين، إلا أن الحال لم يتحسب بينهم طوال هذه الجولات، بالإضافة إلى أن هذا الإعلان لم يتم في أى من العواصم العربية التي كانت تعمل بجهد في هذا الإطار. لذا فمن المتوقع أن هذا الإعلان الثلاثي قد يأخذ رواجاً إعلامياً، أكثر من حقيقة نتائجة على أرض الواقع بين الجانبين.
إلى جانب هذا، فإن أطرافاً، خاصة إقليمية، لا ترحب كثيراً بمسار التقارب السعودي – الإيراني، وعلى رأسهم إسرائيل كونها لا ترى حلاً في المسألة الإيرانية إلا بتوجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني، أو تغيير النظام الداخلي هناك. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإنها سترى بأن نجاح هذه الخطوة ضرراً بموقفها في منطقة الشرق الأوسط أمام منافستها الصين، على الرغم من أنها سترحب بذلك دبلوماسياً. ومصدر الضرر يكمن في آلية الترتيبات التي ترتبط بالدولة الراعية للاتفاق وهي الصين وليست آلية أمريكية، والذي سيظهر في النتائج في طبيعة العلاقات الصينية الخليجية الإيرانية بدرجة نفوذ صينية أكبر.
وسبق أن وضحنا بتقديرات الموقف السابقة أن السعودية لها مطالب من الجانب الأمريكي نظير التطبيع مع إسرائيل، وهما كالأتي:
– تعاون بين السعودية والولايات المتحدة لأنشاء وتطوير برنامج نووى سلمي لأنتاج الكهرباء إلى جانب الحصول على قدرات إنتاج الوقود النووي الخاص بالمفاعلات.
– تقديم مزيد من الضمانات لأمنية من الولايات المتحدة لحماية السعودية من التهديدات الإفليمية.
– ضمان حصول السعودية على الأسلحة والذخائر المتقدمة الغربية.
لكن من الواضح ان قطار التطبيع السعودي/ الإسرائيلي قد يتأخر، على الأقل فى الأمد المنظور، خصوصاً وأن إسرائيل تبني نهج تقربها مع السعودية على أساس تواجد الخطر الإيراني إلي جانب خيبة الأمل الكبيرة للرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالى نتنياهو الذي بنى حملته الأنتخابية على اساس إستطاعته التطبيع مع السعودية فى أقرب فرصة ممكنة وقد يتعرض نتنياهو لمزيد من الضغط من الداخل الإسرائيلي.
ومن المتوقع أن تهدأ عدة ملفات إقليمية ناتجة عن الخلاف السعودي/ الإيراني كالتالي:
– اليمن: تهدئة حدة الصراع أمام الحوثي، مع إمكانية التوصل إلي وقف لإطلاق النار في إطار اتفاقية دائمة لكي تنسحب السعودية من اليمن عسكرياً مع الحصول على ضمانات أمنية من الحوثيين بعدم إستهداف العمق السعودي، لكن المشهد السياسي الداخلي في اليمن قد يظل بلا حلول جذرية.
– لبنان: قد يساهم هدوء حدة التنافس بين السعودية وإيران إلى عودة المساعدات المالية مرة أخرى للبنان، وان كانت بشروط، للإصلاح السياسي الداخلي بالمشهد اللبناني، لكن قد لا تتعنت دول الخليج بالشروط هذه المرة.
– العراق وسوريا: قد لا يتأثرا كثيراً بسبب تتداخل قوى دولية بمحددات المشهد السياسي والأمني لهما، لذلك سيظلا مسرحاً للصراع الإيراني الغربي بشتى الأدوات الدبلوماسية والأقتصادية والعسكرية.
شارك

administrator

استشاري الأمن الدوَلي والدفاع، رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع، الإمارات العربية المتحدة، وأستاذ زائر في العلاقات الدولية والأمن الدولي في أوروبا وشرق آسيا، (مصري)