استطاع فيروس كورونا المستجد COVID-19 الذي ظهر في الصين بنهايات العام 2019 وانتشر في جميع أنحاء العالم خلال الربع الأول من العام 2020 مخلفاً أكثر من اثنين ونصف مليون مصاب وأكثر من مائتي ألف قتيل. كل ذلك في عالم استهان بالفيروس ولم يتخيل أن يصبح وباءً عالمياً يفقد السيطرة عليه، عالم منقسم بين دول متقدمة لا ترى سوى مصالحها وتواجه الوباء في جزر منعزلة عن بعضها البعض، ودول مشغولة بالمؤامرات التي وراء الوباء ولا تملك سوى أن تنتظر مصيرها المحتوم.. ويبقى السؤال، هل كان فيروس كورونا المستجد أو غيره من أوبئة سراً غير معلوماً وأن العالم يعيش المفاجأة، أم أنه كان أمراً متوقعاً طبقاً لنتائج الأبحاث ولكن لم تُتخذ التدابير التحضيرية اللازمة لمواجهته قبل أحد؟ وللإجابة على هذا السؤال سأعرض سرد موجز يوضح الأمر.
بحثت بالفعل في الأمر ووجدت أن زعماء أمريكيين وجهات أمريكية عدة كانت تحتمل انتشار أوبئة قاتلة في المستقبل القريب والمتوسط منذ عام 2005 وحتى عام 2019، وهو أمر طبيعي لأن الأبحاث العلمية تراكمية ويمكنها التنبؤ والاستشراف العلمي بالتهديدات، بدءً من تهديدات الأمن الداخلي وحتى تهديدات الأمن العالمي ومنها الأوبئة القاتلة.. وملخص المتابعة كالآتي:
عام 2005 في المعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية NIH في مدينة “بيثيسدا” بولاية ميريلاند، ألقى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش كلمة يحث فيها الكونجرس والإدارة الأمريكية على الاستعداد للأوبئة المستقبلية، حيث قال “إذا انتظرنا ظهور جائحة، فسيكون الأوان قد فات للاستعداد”. رابط كلمة بوش بالمعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية عام 2005. George W. Bush ‘If we wait for a pandemic to appear, it will be too late to prepare’:
عام 2012، قامت مؤسسة راند بدراسة التهديدات العالمية التي تواجه الولايات المتحدة وخلصت إلى أن الأوبئة فقط هي التي تشكل خطراً وجودياً، من حيث أنها “قادرة على تدمير نمط الحياة في أمريكا”. رابط دراسة مؤسسة راند بعنوان “هديدات بدون فاعلين” ص7 فقرة الأوبئة سطر 24 – Threats Without Threateners https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/occasional_papers/2012/RAND_OP360.pdf
– في 2 ديسمبر 2014 قام الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أيضاً بجولة في مركز أبحاث اللقاحات بالمعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية NIH في مدينة “بيثيسدا” بولاية ميريلاند، والتقى بالعلماء الأمريكيين الباحثين لتطوير طرق لمكافحة فيروس أبيولا المستمر في تدمير غرب أفريقيا وقتها. وألقى أوباما كلمة حث فيها الكونجرس على تجنيب الخلافات الحزبية ورصد تمويل لمكافحة الأوبئة في المستقبل. وشدد أوباما على أهمية الاستثمار في البحث في مجال الأوبئة على المدى البعيد، وقال: “لا يمكننا القول أننا محظوظون بفيروس الإيبولا لأنه من الواضح أن له تأثيراً مدمراً في غرب إفريقيا، لكنه لا ينتقل عن طريق الهواء. قد يأتي ويحتمل أن يأتي وقت نصاب فيه بمرض معدي عن طريق الهواء وقاتل في نفس الوقت. ولكي نتعامل مع ذلك الأمر بفاعلية، علينا أن ننشيء بنية تحتية – ليس فقط هنا في الولايات المتحدة، ولكن على الصعيد العالمي – تسمح لنا بمتابعة المرض وعزله والاستجابة ضده بسرعة. لذا، إذا وعند ظهور سلالة جديدة من الإنفلونزا، مثل الإنفلونزا الإسبانية، ربما يظهر بعد خمس أو عشر سنوات من الآن، فنجد أنفسنا قد قمنا بالاستثمار وسنكون أبعد من ذلك لنتمكن من السيطرة عليه. إنه استثمار ذكي لنا للقيام به. إنه ليس مجرد إجراءات تأمين، سنستمر في التصدي لمشكلات مثل هذه”. رابط فيديو كلمة أوباما بعنوان “عام 2014 أوباما حذر الولايات المتحدة من تفشي وباء” – “Obama Warned The U.S. To Prepare For A Pandemic Back In 2014”: https://www.youtube.com/watch?v=pBVAnaHxHbM
عام 2015، كتب الصحفي الأمريكي عزرا كلاين مؤسس وكالة Vox، بعد التحدث مع بيل جيتس حول نموذجه الخوارزمي لكيفية انتشار سلالة جديدة من الإنفلونزا بسرعة في عصر العولمة، أن “الوباء كارثة تعد الأكثر تهديداً للجنس البشري”. رابط مقال عزرا كلاين “الكارثة الأكثر توقعًا في تاريخ الجنس البشري” بتاريخ 27 مايو 2015 – Most predictable disaster in the history of the human race https://www.vox.com/2015/5/27/8660249/bill-gates-spanish-flu-pandemic
عام 2017، وقبل أسبوع من تنصيب ترمب، اجتمعت ليزا موناكو ، مستشارة الأمن الداخلي لباراك أوباما مع مسؤولي الأمن القومي لدونالد ترامب وأجرت تمريناً على غرار تجارب إدارة أزمة مع تفشي أنفلونزا الخنازير، إيبولا، وزيكا. خلصت نتائج التمرين، الذي تم في أسلوب محاكاة، إلى أنه يجب على الولايات المتحدة أن تستعد لوباء الأنفلونزا الذي يعيق السفر الدولي وسلاسل التوريد العالمية، ويدمر سوق الأوراق المالية، ويثقل كاهل أنظمة الرعاية الصحية – كل ذلك يمكن منعه بلقاح يمكن اكتشافه خلال أشهر. وقد اعتبرته ليزا موناكو “سيناريو الكابوس للولايات المتحدة” خاصة لو كان فيروس من سلالة جديدة محمول في الهواء يسبب أمراض الجهاز التنفسي بسبب سهولة انتشاره. رابط مقال يوري فريدمان في 18 مارس 2020 بـ”أتلانتيك” الأمريكية “لقد تم تحذيرنا” الفقرة الثالثة – We Were Warned
في عام 2018، خلال مراسم الذكرى المئوية لتفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، الذي أودى بحياة 50 إلى 100 مليون شخص حول العالم. نوه الباحث إد يونغ أن “الطاعون التالي” قادم ، مع احتمال أن يكون إنفلونزا أكثر خطورة، حتى عندما استسلمت الولايات المتحدة لـ “النسيان وقصر النظر”. أما لوسيانا بوريو، مديرة التأهب الطبي والدفاع البيولوجي بـ”وحدة الإعداد والتصدي للأوبئة” التابعة لمجلس الأمن القومي الأمريكي في ذلك الحين، فقد قالت “إن تهديد وباء الإنفلونزا هو شاغلنا الأول في مجال الأمن الصحي” ولمحت لتخاذل ترمب في هذا الشأن. في اليوم التالي، انتشرت أنباء أن مستشار ترمب للأمن القومي جون بولتون أغلق تلك الوحدة التابعة لمجلس الأمن القومي، والتي كانت بوريو جزءًا منها. رابط مقال إد يونج في أتلانتيك بعنوان “الطاعون القادم قادم. هل أمريكا جاهزة؟” عدد يوليو/ أغسطس 2018 – The Next Plague Is Coming. Is America Ready? https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2018/07/when-the-next-plague-hits/561734/
عام 2019، جمع مركز “جونز هوبكنز” الأمريكي للأمن الصحي خبراء في الصحة العامة، وقادة أعمال، ومسؤولين حكوميين أمريكيين لإجراء تمرين عبارة عن محاكاة لآثار الفيروسات التاجية على المجالات الإنسانية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكانت النتيجة أن الآثار ستكون مدمرة وقد يخلف عنها عشرات ملايين القتلى حول العالم. رابط مركز جون هوبكنز حول الفيروسات التاجية ونتائج تمرين المحاكاة الذي تم إجراءه في خريف 2019 – Statement about nCoV and our pandemic exercise” https://www.centerforhealthsecurity.org/newsroom/center-news/2020-01-24-Statement-of-Clarification-Event201.html
على صعيد آخر، وبجانب الاتهامات المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين حول من السبب في وجود الفيروس وانتشاره، اعتاد الكثير من الشعوب الأوروبية والأمريكية الشعور بأنهم شعوب فوقية. فهم اعتادوا أن يروا أنفسهم مصدر تطور كوكب الأرض، ومن ثم، فهم يستحقون حياة أفضل. أما الحروب الأهلية والأوبئة فهي من نصيب الشعوب المتخلفة، حيث أنها لا تصيب شعوب الدول المتقدمة بالتأكيد، وبالنظر إلى ما تشهده الولايات المتحدة وأوروبا اليوم من ضرر ومن فشل زريع في مواجهة أكثر الأوبئة تفشياً في العالم منذ أكثر من مائة عام، قد نجد ما يشير لغير ذلك.
الخلاصة:
أولاً: بدلاً من هدر الوقت والمجهود في التخمين والتحري عن المتآمرين لإلقاء المسؤولية على طرف بعينه، من الأولى أن نركز يحشد العالم جهوده ويتعاون بصدق متجنباً تنافسه وعدائه من أجل الوصول للقاح يقضي على الوباء أو يحد منه.
ثانياً: لا أحد بريء من المسؤولية مما وصل له العالم الآن، والجميع يستحق الحساب. ولكن يمكن أن نستنتج من كل ما تم نشره وإعلانه في وقته بواسطة الولايات المتحدة وشهده قيادات العالم من خلال مؤسسات صنع القرار التابعة لبلادهم، أنه كان هناك وباءً متوقعاً أن يتفشى في عالمنا هذا وأنه لم يكن عملاً في الخفاء، فالتحذيرات والحث على المواجهة المبكرة كانت متكررة وليست أمراً مفاجئاً. الأمر الذي جعل المراقبين في الولايات المتحدة وحول العالم يرون تقصيراً شديداً من إدارة ترمب من جانب، وكذا تقصيراً أشد من المنظمات الصحية والمؤسسات العلمية المعنية في مختلف الدول خاصة المتقدمة منها، حيث لم يتخذوا الإجراءات اللازمة لمجابهة أزمة عالمية محتملة تم الإعلان عن حيثيات احتمالاتها منذ سنوات.