22 / 06 / 2018

أولاً: مقدمة:

استند مصطفى كمال أتاتورك منذ أن أنشأ تركيا الحديثة في سياسته الخارجية إلى السعي لضمان أمن البلاد من خلال الدخول في معاهدات وتحالفات إقليمية ودولية، حيث انضمت تركيا لمنظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) والمجلس الأوروبي عقب الحرب العالمية الثانية، لتصبح حليفاً يعتمد عليه الغرب في مواجهته مع الاتحاد السوفيتي.

سابقاً غالباً ما كانت تتجنب تركيا التورط سياسيا أو عسكريا في قضايا الشرق الأوسط، ولكن ومع تبوء حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي للحكم إختلف الأمر، فقد تلاحظ أن علاقات تركيا ببيئتها الجيوسياسية ذات الغالبية الإسلامية قد وُضعت على أسس جديدة إرتباطاً بمهندسي تغيير السياسة التركية آنذاك رجب طيب أردوجان رئيس الوزراء وعبد الله جول وزير الخارجية من عام 2003 إلى عام 2007، ومستشار رئيس الوزراء لشؤون السياسة الخارجية “أحمد داوود أوغلو” ، الذي تولى وزارة الشؤون الخارجية منذ مايو 2009.

لنجد اليوم ومع عودة روسيا إلى الساحة الدولية تتحرك تركيا لإستئناف دورها كقوة إقليمية لضمان أمنها القومي ومكانتها الإقليمية التي تتطلب نقلة نوعية في كافة أبعاد القوة الشاملة.. وقد أُنتقدت الحكومة التركية على هذا الدور الإقليمي والدولي الذي تسعى له جاهدة لتعزيز موقفها كقوة (اقتصادية وسياسية) في الأساس.. وربما يرى أردوجان ضرورة تحجيم القوة العسكرية التركية التي تميل أحياناً للإنقلابات.

ثانياً: مشروع “صفر مشاكل”:

لا شك أن الجيرة الجيوسياسية لتركيا كانت في أسوأ حالتها في منتصف التسعينات، مما دفع إلى ظهور خطة “أردوجان – داوود أوغلو” الثنائية والتي تهدف لوضع تركيا في قلب بيئة دون مشاكل سياسية مع الجوار والتي أسموها إستراتيجية “صفر مشاكل”، إلا أن جهودها بائت بالفشل بل وربما زادت مشاكل الجوار مع تركيا، والتي وصلت لقمتها عام 2012.. وربما من أهم أسباب هذا الفشل قيام تركيا بمحاولات للوساطة في الصراع العربي الإسرائيلي خارج السياسة العامة لمصر والأردن، وبناء علاقة بناءة مع السلطات الإسلامية في إيران، وكذا جهود أنقرة للاضطلاع بدور في تسوية الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، ودورها في حل النزاعات المستمرة في البلقان، حيث لم تسفر أي من هذه الجهود لشيئ مثمر سواء إقليمياً أو لصالح العلاقات التركية مع الجوار، بل ربما العكس تماماً.. من جانب آخر مساندة تركيا على دعم الإخوان المسلمين في دول الثورات العربية، وتهديدها المتكرر لدول أوروبا بشأن مشكلة اللاجئين.

ثالثاً: سوريا “الجار الخطر”

يرى العديد من المحللين أن تركيا قد حاولت إستغلال نتائج ثورات الربيع العربي خاصة مع بداية تبوء تنظيم الإخوان المسلمين الحكم في عدة دول مثل مصر وتونس واليمن، إلا أن إندلاع وتفاقم الحرب الأهلية في سوريا وليبيا عام 2011 (وخاصة سوريا الدولة الحدودية مع تركيا)، أجبرت أنقرة على تعديل مسارها السياسي، والذي حاول أردوجان مراراً أن يضعها في موضع الفعل وليس رد الفعل.. فقد وضعت الاضطرابات في العالم العربي تركيا في مأزق يصعب التعامل معه، في الوقت الذي فشلت فيه سياسة “صفر مشاكل” مع جيران تركيا.. وتصاعدت الخلافات السياسية التركية مع القاهرة وبغداد وطهران وموسكو وعواصم أخرى هامة.

في بداية الحرب الأهلية السورية حاولت تركيا إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بتعديل سياساته والتي يفترض في مضمون هذه التعديلات مجموعة (إصلاحات سياسية)، ولكنها شملت أيضاً ضغوطاً شديدة على الطائفة العلوية الحاكمة بسوريا، وعندم إنصياع الأسد حول موقف أنقرة لتطالبه بالرحيل، فلقد أثرت الحرب الأهلية بشدة على تركيا وهددت أمنها القومي بشكل مباشر، خاصة مع أزدياد تدفق اللاجئين السوريين من بدوره عطل تماماً حركة المرور الاقتصادية بين البلدين.

رابعاً: كردستان، الإنفصال والتفكك:

يعيش حوالي (2) مليون كردي في سوريا، وبعد نشوب الحرب الأهلية، إنسحب حجم كبير جداً من القوات الحكومية السورية من المناطق الكردية على طول الحدود السورية التركية وبما مكن الأكراد من إنشاء إدارتهم الخاصة هناك، وكانت القوة الدافعة وراء ذلك هي حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي كان له علاقات قوية مع حزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا، ذلك الأخير الذي خاض صراع مسلح ضد الدولة التركية منذ عام 1984.. ولنا أن نتخيل، حدود مشتعلة مع جار ينهار نظامه، مما يساعد على ظهور كردي قوي مدعوم من إسرائيل بشكل كامل، وكذا من الولايات المتحدة الأمريكية التي أجلت دعمها لفكرة إنفصال دولة كردية مؤقتاً لعدم استقرار الأوضاع بالمنطقة طبقاً للترتيبات الأمريكية المخططة، كل ذلك في وقت لم تكن فيه أنقرة قريبة من حل الاضطرابات الكردية في الداخل، لا سيما تزايد ظهور الأكراد على الحدود العراقية بالمثل، والتي حققت مكانة سياسية قريبة من الحكم الذاتي للدولة.

كل ذلك جعل تركيا جاهزة بذراع عسكري هام شمال سوريا والذي أسمته “الجيش السوري الحر”، والذي قاتل في مواجهة الجيش العربي السوري مع تزايد الحرب الأهلية، وحالياً يقاتل وفي مواجهة الأكراد الداعين للإنفصال بدولة “كردستان”.

يجب أن نفرق بين الأهداف التي قامت عليها الثورات العربية، وبين محاولات إستغلالها بواسطة قوى إقليمية مستخدمة أذرعها السياسية والعسكرية من جانب، وبين الحروب الأهلية المفتعلة في سوريا وليبيا واليمن والتي حركتها وما زالت تحركها قوى إقليمية لتحقيق أهداف إستراتيجية مُعلنة تحقق مصالحهم وتضمن أمنهم.. وفي خضم كل ذلك قد ينهار الحلم التركي في التحول من قوة إقليمية إلى قوة عالمية تجذب أوروبا والعالم، خاصة مع إحتمال دمج أو زوال دول كـ”سوريا والأردن” والمرتبطتان بشدة بقوة العراق وإحتمالات بقائها، وظهور دول كـ”كردستان”.

ويعتبر الأكراد من أكبر العرقيات في المنطقة، حيث يتواجد حوالي 25 إلى 30 مليوناً منهم إلى جانب 55 إلى 60 مليون تركي في تركيا، و40 مليون من أصول فارسية في إيران و36 مليون كردي عربي في العراق وسوريا، فضلاً عن مجتمعات كردية صغيرة في منطقة القوقاز.. وهم يعتبروا نتاج تقسيم الإمبراطورية العثمانية.

خامساً: الإنقلاب العسكري السادس:

في 15 يوليو 2016 ، حاول فصيل داخل القوات المسلحة التركية القيام بإنقلاب عسكري، إلا أنه تم قمعه بسرعة بواسطة القوات الموالية للحكومة، واستغل أردوجان على الفور محاولة الإنقلاب الفاشلة لتعزيز سلطته، حيث لعبت حكومة أردوجان دورا أكثر حزماً لاحتواء إيران في الخليج والجزيرة العربية وسوريا، فضلاً عن قيام تركيا بإعادة تقييم موقفها في البحر الأسود والقوقاز والبلقان وشرق البحر المتوسط.. وعلى صعيد آخر لا بديل عن إشغال القوات المسلحة التركية في معارك تحمي الأمن القومي التركي خاصة في الشرق الأوسط من أجل وحدة الأراضي التركية، وفي شرق المتوسط على أمل الحصول على حصة مناسبة من الموارد الإقتصادية الطبيعية.

لا شك أن الوقت ما زال مناسباً لتركيا للعب دور الزعيم الإقليمي، فمصر (بصفتها القائد العربي الإقليمي التقليدي) أصبحت أكثر قيداً نتيجة لمواقفها وللأعباء السياسية والإقتصادية والأمنية التي تثقل كاهلها حالياً، ويحاول المعسكر الغربي إعادة قواها لإمكانية توجيه نفوذها لمنطقة شمال إفريقيا، فتمارس مصر دورها الإقليمي لضمان أمن جنوب المتوسط خاصة من اتجاه الشرق وحتى ليبيا.. ليتبقى إيران والسعودية وإسرائيل منافسين إقليميين أقوياء لتركيا، وإن كانت هناك جهود مشتركة لتقويض الدور الإيراني الذي يميل حالياً لجانب تركيا في إطار تشابك المصالح المؤقتة.

تركيا حالياً، ربما منفردة أو بالتعاون مع قطر أو مع روسيا أوإيران أو مع بعض منهم، تقوم بالعديد من التحركات الجيوسياسية الهامة تجاه سوريا والعراق وقطر والقرن الإفريقي، خاصة بعد تحول العلاقات التركية مع روسيا والتي كانت توصف بالعلاقات المحفوفة بالمخاطر وغير المستقرة، إلى ما يمكن وصفه بالعلاقات ذات المصالح الإستراتيجية المشتركة بعيدة المدى، والتي وجهت لأمور عكسية تختلف بشدة مع توجهات القوى الأخرى.، حيث وافق أردوجان على مضض بقاء النظام السوري الحاكم والذي يعد شريكاً متضامناً في مواجهة أزمة إنفصال الدولة الكردية، والذي أظنه حقق لروسيا الكثير.

سادساً: إستراتيجية روسية ناجحة.. “تركيا” أهم محاورها:

تحسب بوتين مسبقاً لاحتمال قيام الناتو بضم دولة الجبل الأسود لغلق نافذة البحر المتوسط عليه من باب البحر الأدرياتيكي، ليحين الدور على تركيا (تلك القوة الإقليمية الكبرى، ثاني قوة بالناتو والحليف القوي لأمريكا وإسرائيل) والمطلة على البحر المتوسط وتمتلك مضيقي “البوسفور” و”الدرنديل” كأهم نافذتين لعبور روسيا للبحر المتوسط من خلال البحر الأسود، والتي يجب أن تكون الأنبوب الأهم والأفضل لتمرير الغاز الروسي لدول أوروبا.. قد نتفهم الآن مدى صبر بوتين على صفاقة أردوجان وغروره بعد إسقاط أحد مقاتلاته لمقاتلة قاذفة روسية فوق الأراضي السورية عام 2015، وعلى مقتل السفير الروسي في أنقرة بعدها على يد أحد رجال الأمن الأتراك، وغير ذلك الكثير.

ان لسوريا ومصر الأولية قبل تركيا، بصفتهما مفتاحا البحر المتوسط الواصل بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الجنوب، واللذان قد يمثلا صماماً للأمان أو مصدراً للتهديد تجاه نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة وعلى أمن دول جنوب أوروبا.

أخيراً، جائت اللحظة التي صبر عليها طويلاً بوتين، عندما يأس أردوجان تماماً من استمرار التحالف مع المعسكر الغربي وإسرائيل والمعسكر العربي السني، وذلك بعد إصرار الولايات المتحدة وإسرائيل على دعم إنفصال الدولة الكردية والذي بالتأكيد سيقسم كل من تركيا وسوريا والعراق.. فنجح بوتين في إيجاد عدو مشترك وهو (الأكراد ومن يقوموا بدعمهم)، وهدف مشترك وهو تماسك الدولتين السورية والعراقية والذي يعاون بالطبع على تماسك الدولة التركية، وهو ما يأتي تماماً في صالح إيران في حربها ضد العرب السنة في اليمن وضد إسرائيل إذا لزم الأمر في سوريا.. وبعد أن نجحت روسيا في مهامها الأولية في سوريا، والذي أدي لإضعاف النفوذ الأمريكي والعربي السني، عقدت مؤتمر “سوتشي” في نوفمبر 2017 بحضور زعماء روسيا وإيران وتركيا كقوى جوار إقليمي دون تواجد عربي واحد لتقرير مصير سوريا.

عقب ذلك، قام إردوجان بشن هجوماً عسكريا شاملاً ضد أكراد سوريا بهدف إنشاء منطقة عازلة كاملة على الحدود التركية الجنوبية داخل سوريا.

سابعاً: التحرك التركي في أفريقيا:

  • قطر والصومال:

في أكتوبر 2014 أفتتحت تركيا قاعدتها العسكرية بمقديشيو المطلة على خليج باب المندب، وبما قد يهدد حالياً دول الخليح من الشرق والجنوب “التوسع من خلال النفوذ” وهو ما يتناسب مع إستراتيجية التركية 2023، ولا شك أن علاقات تركيا بقطر متميزة وذات مصالح مشتركة، حيث أتمت تركيا قبل مقديشيو إنشاء أول قاعدة عسكرية لها في الدوحة المطلة على الخليج العربي مع حلول منتصف العام.

  • السودان:

وليس مستبعداً، وحالة عزم إسطنبول الذي لم يظهر بعد، قيام تركيا بإنشاء قاعدة عسكرية في السودان، وربما ستكون في مدينة بورسودان، وقد تكون بدعم مادي قطري وبما يحقق (تهديد وليس مجرد ضغط) على المدن الرئيسية المقدسة غرب السعودية كشوكة في الظهر، وكذا ستشكل إستفزازاً واضحاً للقاهرة نتيجة للتهديد الأقرب لها في إتجاه قناة السويس من الجنوب.

وكذا ليس مُستبعداً معاودة إردجان لمحاولة إيجاد دور سياسي بين دولتي السودان وجنوب السودان كالتي حاولها في ديسمبر 2102، ولا مستبعد تدفق الدعم العسكري التركي للسودان وبما يعاونها على تسوية الموقف في دارفور.

  • تشاد:

في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة تعاوناً كبيراً في مجال مكافحة الإرهاب بين مصر ودول تجمع الساحل والصحراء والذي يضم دولتي السودان وتشاد، وأيضاً تقرير ضم تشاد كمراقب بجامعة الدول العربية كخطوة لضمها للجامعة مستقبلاً، حيث أعلنت تشاد رسمياً إحتجاجها على تدخل دولة قطر السافر في شؤون تشاد الداخلية وبما يدعم الإرهاب ويزعزع إستقرار البلاد، نجد زيارة أردوجان لتشاد ربما بمهمة (حمامة السلام) بين قطر وتشاد، خاصة مع ظروف تشاد الإقتصادية الحالية والتلويح بدعم قطري مفتوح مستقبلاً لتبديل دور تشاد المنتظر خاصة نحو ليبيا ومحيطها.

  • تونس:

تلاها زيارة أردوجان لتونس ربما لمغازلة المعارضة الإسلامية بها، حيث أظن أن أردوجان يسعى لدعم موقف المعارضة الإسلامية المستقبلي في تونس.. ومن جانب آخر، قد يحاول أردوجان إيجاد سبيل لمفاتيح الأزمة الليبية من جهة الغرب، خاصة مع الجهود الجارية حالياً لحل الأزمة الليبية برعاية ومبادرة تونسية بعد إنتهاء صلاحية إتفاق الصخيرات المنعقد في المغرب.

  • ليبيا:

ما زالت تركيا تدعم القوات الإسلامية في مسراطة بالتعاون مع قطر التي تدعم الحكومة في طرابلس.

ثامناً: خاتمة:

كل ما سبق يدعم المصالح التركية القطرية المشتركة والمتزايدة والتي تستهدف حماية الأمن القومي لتركيا وضمان نفوذها أمام مساعي إنفصال ألأكراد، كما يدعم موقف قطر أمام دول المقاطعة بالضغط المستمر على السعودية والإمارات ومصر، فضلاً عن تأمين المصالح التركية القطرية المشتركة، والتي تستهدف الثروات في الأراضي الليبية، ومحاولات فرض حكم الإسلام السياسي في دول المنطقة، وهو ما قد يصب بشكل غير مباشر في مصلحة إيران ن جانب ومصلحة روسيا من جانب آخر.

 

سيد غنيم
زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا
رئيس مركز دراسات الأمن العالمي والدفاع – أونلاين

 

 

شارك