أولاً: مقدمة:
خلال عشر سنوات مضت، عملت روسيا على تطوير آلياتها وتحسين كيفية استخدامها لعناصر القوة المتاحة لديها وبما يمكنها من المناورة أمام الولايات المتحدة في المنطقة. فقد فاز بوتين في الانتخابات الرئاسية في مارس 2012 بنسبة 64٪ من الأصوات(1)، وذلك تزامناً مع فوضى الشرق الأوسط التي أعقبت الثورات العربية وتداعيات هذه الفوضى. الأمر الذي جعل بوتين يغير أسلوبه البرجماتي الحذر الذي اتبعه في فترتي الرئاسة السابقتين، حيث يبدو أنه كان أمام خياران رئيسيان:
الأول: الانعزال، وذلك تجنبًا للأزمات الإقليمية والدولية في محاولة للتركيز على إيجاد حلول للمشكلات المحلية المتراكمة وإعادة بناء اقتصاد روسيا.
الثاني: التحول لاستعادة مكانة وهيبة روسيا الإقليمية والعالمية لمواجهة النفوذين الأمريكي والأوروبي المتنامين، وفي نهاية المطاف الاستفادة من الموارد المتاحة في مجالات النفوذ الروسي المخطط خارج الحدود الروسية وتحديدًا في شرق أوروبا والبلطيق والشرق الأوسط والمتوسط والقرن الأفريقي ووسط آسيا. ويبدو أن بوتين قرر العمل بالخيار الثاني.
وضع بوتين أهدافًا قصيرة المدى لاستعادة الهيبة الروسية في المنطقة من خلال عدة محاور رئيسة، وذلك أساساً لتعزيز القدرات النووية والفضائية وتحقيق الانتشار السريع في البحر الأسود عبر أوكرانيا. حيث سعى لاستغلال الثغرات المتكررة في الاستراتيجيات الأمريكية في المجالات ذات الاهتمام بدعم من الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وحاجة أوروبا للغاز الوارد من روسيا، والمشاكل السياسية والأمنية التي تواجه بلدان وسط آسيا والبلقان والشرق الأوسط. لقد خطط بوتين لتوسيع نفوذه في الشرق الأوسط في البحر المتوسط من خلال خطوات محددة، الأولى في سوريا من خلال إيران وتركيا من جانب وإسرائيل من جانب آخر، مع توطيد علاقاته مع تركيا غرباً ذات النفوذ المتنامي في سوريا وليبيا، ومع مصرغربًا ذات النفوذ المتنامي في ليبيا. في هذه الأثناء، نرى كل من إيران وتركيا وإسرائيل تنشئ أعماقاً استراتيجية منفصلة في سوريا يضمن حماية الأمن القومي لكل منها، مما دفع الثلاث دول (إيران وتركيا وإسرائيل) إلى تعميق العلاقات مع روسيا في عدة مجالات.
في هذا الإطار ومن دراسة استراتيجية الأمن القومي لروسيا الاتحادية الصادرة في ديسمبر 2015 وعقيدة بوتين وسياسة روسيا في المنطقة، يمكن الوصول للآتي:
يمكن تلخيص الرؤية الاستراتيجية الروسية في استعادة ثقل روسيا الاتحادية كقوة عالمية مناظرة للولايات المتحدة في عالم متعدد الأقطاب، قادرة على فرض إرادتها السياسية والأمنية وردع الناتو، وضمان بقاء روسيا الاتحادية دولة آمنة مزدهرة.
كما يمكن تلخيص الأهداف الاستراتيجية الروسية في المنطقة في استعادة الدولة والهيبة الروسية في البحر الأسود، وشرق أوروبا، ووسط آسيا، والبلطيق، والشرق الأوسط خاصة مناطق الخليج والشام وشرق المتوسط والقرن الإفريقي، وكسب أكبر عدد من الحلفاء بانتزاعهم من الولايات المتحدة وأوروبا وبما يعظم المناطق العازلة بين روسيا والغرب. وتعظيم قوى روسيا الاتحادية التكنولوجية والعسكرية والنووية والدبلوماسية والاقتصادية وتكنولوجيا الفضاء والأمن السيبراني والإعلامية. وكذلك الحد من الهيمنة العالمية للولايات المتحدة خاصة في مناطق المصالح، واستمرار روسيا في مد الغاز لأوروبا. وتعظيم العلاقات الاستراتيجية المتبادلة مع دول هذه الأقاليم من خلال الاتفاقية السياسية والعسكرية والمشروعات الاقتصادية والاستثمارات المشتركة، وضمان وجود سوق موسع لتكنولوجيا السلاح التكنولوجية النووية الروسية.
وارتباطاً بما سبق واستراتيجية الأمن القومي الروسي 2009-2020، واستراتيجية الأمن القومي الروسي المُعدلة 2015-2020(2)، واستراتيجية الأمن القومي الروسي يوليو 2021)(3) والتي لم تختلف عن استراتيجية 2015 سوى بشأن العداء الصريح تجاه تهديدات محتملة من الولايات المحتملة والناتو، فإن عقيدة بوتين(4) لتحقيق أهدافه الاستراتيجية تتلخص في أن هناك إجماع روسي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي يقوم على ثلاث ضرورات جيوستراتيجية وهي: أن تظل روسيا قوة عظمى نووية، وأن تصبح قوة عظمى في جميع جوانب النشاط الدولي، وأن يكون لروسيا الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية على محيطها الإقليمي.
بعد انتخابه رئيسًا في عام 2000 أضاف بوتين إلى الضرورات الاستراتيجية الروسية الثلاث هدفًا شاملًا وهو: “استعادة الأصول الاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية التي خسرتها الدولة السوفيتية في عام 1991″، وقد تابع بوتين هذا الهدف المتمثل في “استعادة الهيبة للدولة الروسية” بشكل يتسم بالتصميم والتماسك والاتساق ليستحق أن يطلق عليه “عقيدة بوتين”، على الصعيد المحلي وجهت عقيدة بوتين “استعادة الهيبة للدولة الروسية” نظام حكمه لاستعادة أعلى معدلات للاقتصاد الروسي خاصة في صناعات النفط والغاز الطبيعي، وإعادة تأكيد سيطرته على السياسة الوطنية، والنظام القضائي، وشبكات التليفزيون الوطنية، والتي يتلقى من خلالها الغالبية الساحقة من الروس أخبارهم.
ثانياً: الأزمة الأوكرانية 2022:
١- في ديسمبر 2021 قامت روسيا بحشد قواتها على حدود أوكرانيا معلنة حدة خطابها تجاه أوكرانيا، وأعلن بوتين عن مقترح اتفاق أمني شامل مع الناتو، مقابل تحقيق ثلاث مطالب وهي:
- – تخلي أوكرانيا وجورجيا عن رغبتهما في الانضمام لحلف الناتو.
- – وقف جميع الأنشطة العسكرية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.
- – انسحاب قوات الناتو من شرق أوروبا وكما كان الوضع قبل عام 1997.
٢- حجم ونشاط القوات العسكرية الروسية منذ انتشاره تجاه أوكرانية وحتى 25 يناير 2022(5):
- – حجم القوات الروسية المنتشرة تجاه أوكرانيا:
35 ألف مقاتل + 484 دبابة + 927 عربة مدرعة + 746 قطعة مدفعية + 176 نظام إطلاق صواريخ متعددة (مدفعية صاروخية) + 688 قطعة دفاع جوي + 435 مقذوف موجه مضاد للدبابات + طائرات بدون طيار + 2100 فرد إداريين وفنيين واستشاريين ومدربين.
- – الأعمال العسكرية الروسية السابقة والحالية:
تنفيذ أنشطة استطلاع جوي (ثلاث طلعات استطلاع طائرات بدون طيار، تنفيذ 10 قصفات دفعية عيار 122 مم، 49 قصفة هاون 120 مم، 11 قصفة مدفعية عيار 82 مم.
نشاط متزايد لقيادة المنطقة الجنوبية العسكرية – صيانة جاهزية لاستخدام وحدات الدعم، إجراء مرحلة التدريب الجماعي القتالي للتشكيلات المقاتلة وأسلحة الدعم لصالح تنفيذ عملي شاملة في أوكرانيا، صيانة جاهزية استخدام وحدات التسليح، رفع كفاءة التحصينات لمراكز القيادة والسيطرة ومرابض النيران وغيرها من العناصر الهامة، تنفيذ أعمال الدعم اللوجستي لوحدات الأنساق الأولى.
- – الخلاصة من وجهة النظر الأوكرانية:
لا تزال البيئة العملياتية العامة في منطقة عمليات القوات المشتركة تحت السيطرة، ولم يتم الكشف عن تشكيل مجموعات القتال للقوات الروسية التي تسير لتنفيذ عمل عسكري عاجل، ومن ثم وعلى المدى القصير، لا يتوقع حدوث تغييرات في طبيعة نشاط القوات الروسية تجاه أوكرانيا.
٣- يهدف بوتين من الأزمة الأوكرانيا إلى تحقيق الآتي:
الهدف الأول: دفع جهوده وربما استكمالها لاستعادة السيطرة الفعالة على أوكرانيا نفسها:
ويبدو للبعض أنه من الاستعدادات العسكرية الروسية الحالية، على الحدود الأوكرانيا ونشر القوات البحرية في البحر البحرين الأسود والمتوسط والمحيط الأطلسي والمناورات العسكرية البحرية المنفردة ومع الصين وإيران في البحار المؤثرة، أن روسيا تمهد لغزو موسع لأوكرانيا من الشمال والشرق والجنوب مما قد يمنح بوتين السيطرة العسكرية الفعلية على العاصمة الأوكرانية كييف والمدن الأوكرانية الكبرى الأخرى، مما يسمح له بإملاء الشروط التي من شأنها تحقيق الهدف الأول.
الهدف الثاني: انقسام وانهيار حلف الناتو أو على الأقل تحييده.
وذلك بتشتيت جهود قياداته ودوله، واستغلال عدم الوحدة على الأهداف والمصالح، والانقسام الإيديولوجي في بعض دوله مثل ألمانيا والتشيك، وانحراف فرنسا المتكرر عن أهداف الناتو وتزايد توتر العلاقات بين تركيا وفرنسا والولايات المتحدة وجميعهم دولة مهمة بالناتو.
ومع ذلك، تعلم روسيا جيداً أن كلا الهدفين يواجه تحقيقهما صعوبات كبيرة، فروسيا تواجه صعوبات اقتصادية كبيرة، كما أن الغزو سيضاعف مشاكلها الاقتصادية بسبب ما ستنفقه في الحرب على أوكرانيا وأيضاً بسبب حجم العقوبات الاقتصادية المنتظر توقيعها بواسطة كل من الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا حالة تنفيذ الغزو، غير أن روسيا ستكون مُدانة دولياً على “تصرفها الهمجي غير المسؤول”، ناهيك عن أن روسيا ستواجه مواجهة شعبية كبيرة داخل أوكرانيا ستحول موقف منطقة البحر الأسود لعدم الاستقرار مع زيادة حجم المعارضين الأوكرانيين لسياسات بوتين خاصة بعد حربه على أوكرانيا عام 2014 والذي تسبب في سقوط الكثير من الضحايا، كما أن أوكرانيا اعتادت نفس الظروف المناخية التي تستغلها روسيا، ومن ثم فإن روسيا تخسر ميزة استغلال الجليد في الحرب ضد أوكرانيا التي اعتادت استغلالها في حروبها السابقة.
من جانب آخر، قد يقوض الغزو الروسي لأوكرانيا جهود روسيا لتحقيق الهدف الثاني لأنه قد يحشد حلف الناتو للرد على العدوان الروسي ولو بأشكال غير نمطية، أي سيوحد الناتو على هدف واحد ضد روسيا وليس العكس.
٤- ارتباطاً بكل ما سبق، أرى أن الاحتمالات الاستراتيجية المتوقعة من روسياً يمكن تلخيصها في أحد احتمالين:
الاحتمال لأول (الأقرب): عدم قيام روسيا بتنفيذ غزو عسكري كامل لأوكرانيا بأكملها خلال هذه الفترة.
الاحتمال الثاني: قيام روسيا بعمل عسكري (عملية محدودة) في المناطق جنوب وجنوب شرق أوكرانيا إلى جانب ضربات جوية وصاروخية قصيرة مكثفة في مناطق مختلفة، وبما يضع بوتين في وضع تفاوضي أفضل لتحقيق كلا الهدفين وبأقل تكاليف ومخاطر قد تقع على روسيا.
وفي حالة اللجوء لهذا الاحتمال فإن تحقيقه سيبدأ بنشر القوات الروسية بشكل علني في “دونباس” المحتلة مع منتصف أو نهاية شهر فبراير (أي مع ذوبان الجليد)، وقد تشن روسيا حملة جوية وصاروخية في جميع الأنحاء (غير المحتلة) في أوكرانيا بالتزامن مع انتشار علني في دونباس المحتلة. ذلك بالتزامن مع تنفيذ توغلات عسكرية برية محدودة شمالًا وغربًا من دونباس المحتلة و/ أو شمالًا من شبه جزيرة القرم.
دكتور سَــــيْد غُنــــيْم، دكتوراه العلوم الساسية، زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا
رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع – أستاذ زائر بالناتو