في ظاهر المشهد يبدو الصراع الدائر في السودان بين جيشٍ نظامي وقوة متمردة خرجت عن سلطته، لكن ما تخفيه الوقائع أعمق بكثير من تلك الثنائية. فالحرب التي تمزق السودان ليست مجرد تنازعٍ على السلطة، بل هي معركة داخل بنية الإسلام السياسي نفسه، بين جناحٍ فقد السيطرة على أدواته (قوات الدعم السريع)، وجناحٍ يسعى لاستعادة الحكم تحت راية “الجيش الوطني”.
أولاً: من المزايدة الدينية إلى عسكرة المشروع الإسلامي
منذ عهد جعفر النميري، حين بدأ توظيف الدين في السياسة، وحتى انقلاب عمر البشير عام 1989، لم يفارق السودان مدار الإسلام السياسي. فالحركة الإسلامية السودانية (المعروفة محليًا بالكيزان) نجحت في ما لم تنجح فيه حركات مماثلة في بلدان عربية أخرى:
أن تتسلل إلى الجيش والدولة لا كخصمٍ لهما بل كروحٍ داخلهما.
لقد جرى تديين المؤسسة العسكرية نفسها، وتحويل الولاء من الدولة إلى “المشروع الإسلامي”، فصار الضابط السوداني يُربّى على أن “الجيش هو ذراع الدعوة”، وأن حماية النظام الإسلامي تعلو على حماية الدستور.
ولذلك، حين نفّذ البشير انقلابه، لم يكن انقلابًا عسكريًا صرفًا، بل تتويجًا لمسارٍ طويل من التدجين العقائدي للمؤسسة العسكرية.
وهكذا تحوّل الجيش إلى أداة أيديولوجية بلباسٍ وطني، بينما تآكلت فكرة الدولة الجامعة لصالح مشروعٍ حزبيٍّ ديني مغلق.
ثانيًا: الدعم السريع كابنٍ غير شرعي للحركة
حين اندلعت أزمة دارفور، استخدم النظام الميليشيات القبلية كسلاحٍ داخلي لحماية مركز السلطة، فأنشأ ما عُرف لاحقًا بقوات الدعم السريع.
كانت تلك القوات نتاجًا مباشرًا لسياسة الإسلاميين في إدارة الصراع الأهلي:
استعمال القبيلة، وتوزيع السلاح، وربط الولاء بالدين والمال معًا.
لكن ما لم يدركه الكيزان أن هذه الأداة ستتحول بمرور الوقت إلى قوةٍ موازية للدولة، تحمل منطقها الخاص وتمتلك مواردها المستقلة، حتى خرجت عن السيطرة وورثت جزءًا من السلطة والشرعية بحكم القوة الميدانية.
وهكذا، فإن الحرب الحالية ليست بين مشروعين مختلفين، بل بين أبٍ فقد سلطته وابنه الذي تمرّد عليه.
ثالثًا: لماذا لا تُتَّهم تشاد رغم أنها الممر الواقعي؟
المنطق الجغرافي يقول إن أي دعمٍ خارجي لقوات الدعم السريع يمر عبر الحدود الغربية الممتدة مع تشاد، حيث التشابك القبلي والطرق المفتوحة.
لكن البرهان لا يتجرأ على اتهام نجامينا لعدة أسباب:
1. لأن اتهام تشاد يعني تهديد توازنٍ قبلي هشّ داخل دارفور قد ينفجر في وجهه.
2. ولأن النظام التشادي يحظى بدعم روسي متزايد بعد تراجع الحضور الفرنسي، والبرهان لا يريد استعداء موسكو التي تمد له خيوطًا سياسية وعسكرية.
3. ولأن تشاد تمثل منطقة عازلة تمنع الحرب من التمدد إلى العمق الإفريقي، وهو ما يدرك البرهان خطورته.
لذلك، صمت البرهان عن الجار القريب، ووجّه اتهامه إلى البعيد.
رابعًا: الإمارات كعدو أيديولوجي جاهز
إصرار الخطاب الرسمي والإعلامي الموالي للبرهان على اتهام الإمارات ليس بريئًا؛ فالحملة تخدم أهدافًا مزدوجة:
سياسيًا: تحويل الأنظار عن إخفاقات الجيش في الحسم، وتبرير استمرار الحرب بذريعة “التدخل الخارجي”.
أيديولوجيًا: إعادة تعبئة التيار الإسلامي تحت شعار “مواجهة التحالف العلماني العربي”، وهو ما يبرر للكيزان عودتهم إلى المشهد تحت لافتة “الدفاع عن الجيش والدين”.
فالإمارات، في وعي الإسلاميين، تمثل رمزًا مضادًا لمشروعهم التاريخي، لذا يسهل تحويلها إلى “العدو المعلن” الذي يوحد الصفوف ويبرر الخطاب التعبوي.
خامسًا: الالتباس المصري
الكثير من الأصوات في مصر، عن حسن نية أحيانًا، تتعامل مع الجيش السوداني كما لو كان شبيهًا بالجيش المصري من حيث بنيته ووطنية دوره، بينما الفارق جوهري.
فالجيش السوداني، بعد ثلاثة عقود من حكم البشير، لم يعد مؤسسة وطنية صافية، بل بنية هجينة تتقاطع فيها الولاءات الدينية والقبلية والتنظيمية.
ومن هنا جاء سوء الفهم: فحين يساند بعض المصريين البرهان، يظنون أنهم يساندون “الدولة السودانية”، بينما في واقع الأمر يدعمون امتدادًا سياسيًا للحركة الإسلامية التي فقدت نفوذها العلني وتبحث عن عودة مقنّعة عبر المؤسسة العسكرية.
سادسًا: بين خطاب الجيش وواقع الحركة
البرهان اليوم لا يحكم باسم الدولة، بل باسم رواية الدفاع عن الدولة.
أما الكيزان فيستخدمون هذا الخطاب لتصوير أنفسهم كحماة الهوية الإسلامية في وجه المؤامرات الخارجية، مستغلين وعيًا عربيًا مضلَّلاً وذاكرة سياسية قصيرة.
وفي خلفية المشهد، يتواصل استخدام الدين والجيش والقبيلة كسلاحٍ واحد، لإطالة عمر نظامٍ فقد شرعيته الأخلاقية لكنه ما زال يتشبث بمفاتيح القوة.
سابعًا: نحو فهمٍ أدق للمأزق السوداني
إن جوهر الأزمة السودانية لا يكمن في تعدد الجيوش ولا في صراع الجنرالات، بل في عجز الإسلام السياسي عن التحول إلى مشروع دولة بعد أن استنزف أدواته كافة.
فهو الآن يعيد إنتاج نفسه في صورة “دولة الجيش المؤمن”، بعد أن فشل في دولة الشريعة والدعوة.
وإذا كانت قوات الدعم السريع قد كشفت الوجه المسلح لسياسات البشير القديمة، فإن البرهان يكشف اليوم وجهها المؤسسي – الشرعي – الجديد، بزيٍّ عسكري وشعارات وطنية، لكنها تخفي البنية ذاتها.
خاتمة: حين تتخفى الأيديولوجيا في البدلة العسكرية
إن اتهام الإمارات وصمت الخرطوم عن تشاد وروسيا ليس إلا انعكاسًا لاصطفافٍ أيديولوجي أكثر منه واقعيًا.
فالبرهان وحلفاؤه الإسلاميون يخوضون معركة بقاء، لا باسم السودان، بل باسم فكرةٍ ترى في الجيش آخر قلاعها بعد سقوط المشروع في السياسة والمجتمع.
ولذلك، فإن ما يجري في السودان اليوم ليس حربًا بين جيش ومليشيا فحسب، بل حربًا على هوية الدولة نفسها:
هل تبقى أسيرة خطاب ديني مسيس اقصائى يختبئ وراء البندقية، أم تخرج من أسر الماضي نحو دولةٍ مدنيةٍ تقبل التنوع وتستوعبه و تستعيد حقها في الوجود دون وسطاءٍ أيديولوجيين؟
بقلم:
لواء أركان حرب ياسر هاشم
رئيس القسم الأمني والعسكري
معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع