معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع:
القسم الأمني والعسكري
دكتور سَــــيد غُنــــيم
زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا
رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع
الأستاذ الزائر بالناتو والأكاديمية العسكرية الملكية ببروكسل
في محاضراتي الدولية في الشرق الأوسط وشرق آسيا وأوروبا، عادة ما أتعرض للتنافس الدولي بين كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا، إلا أن الوضع يختلف في محاضراتي في أميركا اللاتينية، حيث إن حضور إيران في لعبة التنافس الدولي في أميركا اللاتينية أكبر من روسيا.
ولذا نجد إسرائيل، ومن بعدها دول الخليج وأوروبا، قد اهتموا بمراقبة نفوذ إيران في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، خاصةً وأن الإدارات الأمريكية السابقة قد تجاهلت إلى حد كبير الوجود الإيراني المتنامي في أمريكا اللاتينية.
واتصور أن إدارة ترمب، عكس سابقتها من الإدارات الأمريكية، تصنع حاليًا فرصة فريدة لصياغة وتنفيذ استراتيجية للحد من توسع إيران، وكبح نفوذها في أمريكا اللاتينية، لا سيما من خلال تسريع حملة مكافحة تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية إلى أراضيها.
أولاً: مواطن النفوذ الإيراني في أميركا اللاتينية:
1. فنزويلا:
ومن أهم بؤر النفوذ الإيراني في أميركا اللاتينية نجد فنزويلا، حيث يُسلط استئناف الرحلات الجوية التي تُسيّرها فيلق القدس الإيراني إلى فنزويلا الضوء على جهود طهران المستمرة لتوسيع نفوذها في أمريكا اللاتينية. وتعتبر إيران فنزويلا بوابة حيوية لأنشطتها. تنعكس هذه العلاقة الوثيقة بين إيران وفنزويلا في عمليات نقل الأسلحة، بالإضافة إلى التعاون الاقتصادي والسياسي. من جانبها، تستغل فنزويلا هذه العلاقات لتهديد جارتها، غيانا، في ظل نزاعهما الإقليمي المستمر.
2. بوليفيا ونيكاراجوا:
وقعت بوليفيا صفقة لشراء طائرات بدون طيار من إيران عام 2023، وهي ونيكاراغوا شريكتان رئيسيتان تدعمان استراتيجية إيران في أمريكا اللاتينية، والتي تعتبرها الولايات المتحدة وإسرائيل المزعزعة للاستقرار في أميركا اللاتينية.
3. البرازيل وتشيلي وكولومبيا:
ترى طهران أن التغيرات السياسية في بعض دول المنطقة، وخاصة انتخاب أنظمة ذات ميول يسارية في البرازيل وتشيلي وكولومبيا – تُهيئ “بيئة عمل مواتية” لتوسيع نفوذها. وتفترض إيران أن هذه الحكومات تُشاركها هدفها المتمثل في مقاومة “النفوذ الغربي”، وبالتالي تعمل على توسيع العلاقات السياسية والأمنية والثقافية معها.
إدارة ترمب في مواجهة نفوذ إيران في أميركا اللاتينية:
منذ تولي ترمب السلطة، بذل كبار المسؤولين بإدارته، بقيادة وزير الخارجية ماركو روبيو، جهودًا كبيرة لتأمين الحدود الجنوبية للولايات المتحدة من تهديدات مثل تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية والإرهاب. وفي إطار هذه الحملة، تسعى الإدارة إلى استقطاب دول أمريكا اللاتينية المعنية، متبعةً سياسة “الترغيب والترهيب” – بمكافأة المتعاونين ومعاقبة الممتنعين بإجراءات مثل فرض الرسوم الجمركية.
في الوقت نفسه، تتخذ الإدارة خطوات للحد من النفوذ الصيني في أمريكا اللاتينية، بما في ذلك جهود استعادة السيطرة على قناة بنما. كما تمارس ضغوطًا على فنزويلا، ليس فقط بشأن الهجرة غير الشرعية، ولكن أيضًا بسبب علاقات كاراكاس الوثيقة مع طهران، التي تعتبرها الولايات المتحدة تهديدًا لأمنها القومي ولحلفائها الإقليميين، الذين قد يواجهون عدوانًا من فنزويلا. تتوافق هذه الخطوات مع رؤية إدارة ترامب الأوسع لإيران كتهديد خطير للولايات المتحدة ومصالحها الحيوية، ليس فقط في أمريكا اللاتينية.
إن التقاء تركيز الإدارة على أمن أمريكا اللاتينية وتصورها لإيران كتهديد رئيسي يُتيح فرصة نادرة للدفع بسلسلة من الإجراءات ضد الوجود الإيراني المتنامي في القارة. ترى إدارة ترمب أن نفوذ إيران في أمريكا اللاتينية أشد تهديدًا من نفوذ الصين وروسيا، أو حتى من استمرار تهريب الأسلحة والمخدرات والأشخاص إلى الولايات المتحدة. ويبدو هذا النفوذ خطيرًا بما يكفي لتبرير اتخاذ إجراء حاسم.
نلاحظ أن إدارة ترمب هنا ليست ضد الحكومات اليمنية في أميركا اللاتينية، على العكس تمامًا، فهي مع اليمين المتشدد ضد القيم الغربية، ولكنها ضد تمدد النفوذين الإيراني والصيني المتمددين من خلال اليمين.
ثانيًا: مبادئ خطة إسرائيل المحتملة:
أتصور ان إسرائيل ستدفع بقوة لاغتنام فرصة تحرك إدارة ترمب ضد النفوذ الإيراني في أميركا اللاتينية، والترويج لخطة عمل معها، تهدف إلى إبعاد الإيرانيين عن أمريكا اللاتينية. وحسب التفكير الإسرائيلي قد تتضمن هذه الخطة المبادئ التالية:
1. نظرًا للدور المحوري لفنزويلا في النشاط الإيراني في أمريكا اللاتينية، قد تدفع إسرائيل واشنطن لتصعيد الضغط على كاراكاس بشكل كبير لفرض تكاليف على دعمها لطهران. ينبغي أن تستهدف الإجراءات قدرة فيلق القدس على الحفاظ على الخط الجوي بين طهران وكاراكاس، والذي يُمكّن إيران من نقل الأسلحة إلى حلفائها في أمريكا اللاتينية، بما في ذلك استهداف الدول الأفريقية التي تتزود فيها طائرات فيلق القدس بالوقود في طريقها إلى فنزويلا. كما ينبغي بذل الجهود لتعطيل وجود أفراد فيلق القدس في فنزويلا. حيث ترى إسرائيل أن تغيير النظام في فنزويلا ونهاية رئاسة نيكولاس مادورو سيشكلان انتكاسة كبيرة لطموحات إيران في أمريكا اللاتينية.
2. دفع الولايات المتحدة لزيادة الضغط الاقتصادي والسياسي بشكل كبير على الدول التي تحافظ على علاقات وثيقة مع طهران، مثل بوليفيا ونيكاراغوا. وحث واشنطن لإرسال إشارة واضحة إلى دول أمريكا اللاتينية الأخرى بأن تعميق العلاقات مع إيران سيكون له ثمن باهظ.
3. يعتمد معظم نشاط إيران في أمريكا اللاتينية على شبكة قوتها الناعمة، والتي تتمحور بشكل رئيسي حول السيطرة على المراكز الدينية الشيعية، والمراكز الثقافية التي تُدار عبر سفاراتها، والفروع الأكاديمية للجامعات الإيرانية، وعلى رأسها جامعة المصطفى (الخاضعة أصلاً لعقوبات أمريكية). ولذا ستدفع إسرائيل إدارة ترمب لحث حكومات المنطقة على إغلاق هذه المؤسسات.
4. دفع الولايات المتحدة لتعميق علاقاتها الأمنية والاستخباراتية مع الدول المعرضة للتهديدات الإيرانية نظرًا لقربها من إسرائيل والولايات المتحدة، مثل الأرجنتين وجواتيمالا وباراجواي. من شأن هذه الجهود أن توجه رسالة واضحة مفادها أن القرب من الولايات المتحدة يتطلب من الدول النأي بنفسها عن إيران والامتناع عن شراء قدرات عسكرية منها. وكذا دفع الولايات المتحدة لاتخاذ تدابير ضد أفراد مُحددين يعززون النفوذ الإيراني في المنطقة.
5. تخصيص الموارد اللازمة لمعاونة واشنطن في كشف الروابط بين إيران وحزب الله وشبكات تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة. وقد أظهرت تحقيقات أمريكية وإسرائيلية سابقة أن حزب الله وإيران وتجار المخدرات في أمريكا اللاتينية تربطهم علاقات وثيقة، حيث يستخدمون أرباح التهريب لتمويل أنشطة حزب الله. نظراً للحاجة المُلِحّة لإيران وحزب الله لإعادة بناء الجناح العسكري لحزب الله بعد المواجهات مع إسرائيل، فمن المُرجّح جدّاً أن تتكثّف الجهود في هذا المجال.
ونظراً لتورّط إيران في محاولات شن هجمات في السنوات الأخيرة ضدّ مصالح وأفراد إسرائيليين في بيرو والإكوادور والبرازيل، فإنّ هناك حاجةً أيضاً إلى اتخاذ إجراءات فعالة لتفكيك البنى التحتية الإرهابية المحلية التي سهلت هذه المؤامرات.
إنّ التحرّكات الأمريكية ضدّ الوجود الإيراني في أمريكا اللاتينية ستُشير إلى استعداد إدارة ترمب لتوسيع حملتها ضد النفوذ الإيراني السلبي إلى ما وراء الشرق الأوسط. وقد يكون لهذا النهج صدى إيجابيّ يتجاوز أمريكا اللاتينية، إذ سيُشجع دولاً في إفريقيا وآسيا على الحدّ من النشاط الإيراني داخل حدودها لتجنب مواجهة إجراءات أمريكية مضادة. ومن شأن هذا الجهد أن يزيد الضغط على النظام الإيراني بشكل كبير.
ترى إسرائيل في نهاية المطاف، أن رغبة إدارة ترمب في توسيع نطاق نشاطها الأمني والدبلوماسي بشكل كبير في أمريكا اللاتينية لحماية المصالح الأمريكية الحيوية – إلى جانب تصورها لإيران كتهديد كبير – تُوفّر أرضاً خصبة لبناء استراتيجية مُركّزة لإضعاف الوجود الإيرانيّ في المنطقة. في حال نجاحها، ستُقوّض قدرة إيران على تهديد الولايات المتحدة بشكل مباشر – من خلال هجمات تُشنّ من مناطق مثل فنزويلا – أو بشكل غير مباشر – من خلال عمليات إرهابية – بشكل كبير، وكذلك قدرة إيران على السيطرة على الموارد الطبيعية لأمريكا اللاتينية، وأصولها الاقتصادية، ووجود أعداد كبيرة من الشيعة في جميع أنحاء القارة. ورغم السلوك الفوضوي الحالي لإدارة ترامب، فإن بقاء أمريكا اللاتينية ركيزةً أساسيةً في سياستها الخارجية – لا سيما في ضوء اهتمامها بتقليص وجودها الدبلوماسي في أماكن أخرى، مثل أفريقيا – يُشير إلى وجود فرصة حقيقية للمضي قدمًا في هذه الاستراتيجية مع إدارة ترمب.
ثالثًا: الرأي:
ستستغل إسرائيل زخم صراعاتها في الشرق الأوسط، أساسًا ضد إيران، وتحرك إدارة ترمب ضد نفوذ إيران في أميركا اللاتينية، لتأجيج موقف واشنطن ضد إيران في فناء الولايات المتحدة الخلفي، ودعم الإدارة الأمريكية في تقويض قدرات إيران في دول النفوذ هناك، وبما يمهد لتحقيق هدف إسرائيل الأبعد، وهو إقناع إدارة ترمب لضرب البنية التحتية النووية الإيرانية، رغم الجهود الإقليمية والدولية لاحتواء الأزمة وتوقيع واشنطن اتفاقية نووية جديدة مع طهران.