دكتور سَــــيْد غُنــــيْم دكتوراه العلوم السياسية زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا، ورئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع
سؤالين يُطرحا دولياً بقوة بشأن تحركات ڤاجنر..
١- كيف غامر بريجوچين بتحريك قوات ڤاجنر داخل روسيا مقترباً حوالي ٣٣٠ كم من موسكو، ولم تبدي قوات إنفاذ القانون الروسية أي مقاومة تذكر سوى بإنشاء موانع بالحفر على بعض محاور التقدم الرئيسية لموسكو؟
٢- ولماذا تراجع بريجوچين عن موقفه؟
أولاً: هدف بريجوچين الرئيسي هو الإطاحة بالقيادات الروسية والجلوس على مقعد الرئاسة بالكريملين ووضع قوانين جديدة لسير البلاد تتواءم مع تعقيدات نفسية ترتبت على كونه سجين سابق منبوذ من مجتمع لا بديل عن أن يقوده بنفسه ويخضعه تحت إرادته، الأمر الذي عضده انتصاراته المبالغ في شأنها في أوكرانيا على حساب سمعة القوات المسلحة الروسية بشكل خاص والقيادة الروسية بشكل عام.
بجانب ما سبق، وعلى التوازي استند بريجوچين لتحقيق هدفه على ثلاثة أبعاد رئيسية:
١- (سياسياً وشعبوياً) نجح بريجوچين في منافسة بوتين نفسه وانتزاع شريحة كبيرة من حصة شعبيته في الداخل الروسي، فقد أظهر استطلاع للراي أجرته مبادرة “ناڤي الروسية” يوم ١٠ مايو ٢٠٢٣ حصوله على نسبة ٣٩،٧٪ مباشرة خلف بوتين الذي نال فقط نسبة شعبية روسية ٤٢,٥٪ في المقابل، ومتقدما على كل من لاڤروف وشويجو بفارقين كبيرين.
٢- (عسكرياً)، قام بريجوچين بمحاولة كسب قيادات عسكرية روسية كبيرة على حساب خلافاتهم الشخصية بين بعضهم البعض، مع استمرار بريجوچين في إلقاء اللوم على القادة الروس أنهم السبب في الانسحابات الروسية المتتالية من الجبهة وإن أي نجاحات في الحرب فڤاجنر هي من حققتها. وقد نجح بريجوچين جراء ذلك في كسب ثقة ودعم سيرجي سوروڤكين الذي كان قد عين قائد العملية العسكرية في أوكرانيا مع هذه الانسحابات وذلك على حساب وزير الدفاع ورئيس الأركان شويجو وجراسيموڤ الذين أصبحا مكروهين من الأفراد المقاتلين بالجيش الروسي، وكذا على حساب ألكسندر لابين قائد المنطقة المركزية العسكرية سابقآ ومساعد رئيس الأركان حالياً، الأمر الذي كان أحد الأسباب في تخفيض جراسيموڤ درجة وتعيينه قائداً للعملية ووضع سوروڤكين تحت قيادته مساعداً له، وقيام بوتين وشويجو وجراسيموڤ بإعادة تلميع صورة لابين ثانية.
كما نجح بريجوچين في استقطاب العديد من الوحدات الفرعية والأفراد الروس مستغلاً شكواهم الدائمة من قلة الدعم الواصل لهم، لدرجة إنضمام عناصر من الوحدات القريبة منه في باخموت لوحداته بالفعل.
٣- (عملياتياً)، يمكن لأي دولة التخطيط عسكرياً لمواجهة دولة أخرى في جبهة عسكرية واحدة، وهناك دولة كإسرائيل مثلاً يمكنها مواجهة دولتين على جبهتين مختلفتين على حدودها في وقت واحد، وهناك دول كالولايات المتحدة وروسيا والصين يمكنها تنفيذ عمليات عسكرية في عدة اتجاهات استراتيچية في وقت واحد خارج حدودها. ولكن الأصعب والأشد خطورة على الإطلاق أن تستطع أي دولة بما فيها الدول الأقوى عسكرياً في العالم أن تجري حرباً عسكرية داخل حدودها ضد أي تمرد مسلح في الوقت الذي تجري فيه حرباً مع دولة أخرى خاصةً على حدودها، لأن ذلك سيعرض بدرجة كبيرة للغاية الظهيرين الشعبي والعسكري للانقسام ويفشل النظام الحاكم في السيطرة على الموقف الداخلي والنصر العسكري على الدولة العدو، خاصةً مع انعدام زجزد دولة تُعد حليف قوي عسكرياً.
كل ما سبق دفع بريجوچين للمغامرة المحسوبة نسبياً للدخول بقواته في روسيا مستنداً على الظهير الشعبي المتزايد له وتخوف بوتين من تحول بلاده لحرب تُصنف كـ “حرب أهلية” بين الروس في المسرح الروسي بجانب حربه التقليدية في المسرح الأوكراني، الأمر الذي قد يؤدي الآتي:
١- انقسام الشعب والجيش الروسي بين موالين لبوتين ونظامه الحاكم وموالين لبريجوچين.
٢- عدم قدرة القوات الروسية المسؤولة عن إدارة حرب مطولة في مسرح استراتيچي حدودي ومسرح داخل الدولة الروسية الأكبر في العالم من حيث المساحة (١٧ مليون كم²) وهي مسؤولة عن تأمين كافة حدودها أمام دول الناتو في أوروبا غرباً وشمالاً وجنوباً وأمام الولايات المتحدة وكندا واليابان شرقاً.
٣- احتمال استغلال أوكرانيا الموقف بدفع قوات تجاه بيلغروود في الأراضي الروسية والعمل على التقدم شرقاً تجاه موسكو بالتعاون مع قوات ڤاجنر التي ستكون في أشد الحاجة إليها (بغض النظر أن كانت أوكرانيا ستنفذ ذلك بالفعل ام لا).
٤- استغلال الولايات المتحدة وبريطانيا ودول شرق أوروبا الموقف بالتقرب لبريجوچين ودعمه عسكرياً داخل الأراضي الروسية.
ثانياً: هدف بريجوچين القريب:
مع ظروف الحرب والتوتر السياسي في الكريملين وشعورهم بتزايد خطر بريجوچين تقرر الخلاص منه مع عدم فقدان عنصر الاستفادة من قواته، خاصة مع رفض سوروڤكين دعمه في هدفه الأكبر، وهو ما استشعره بريجوچين، فقرر التفكير في هدف آخر هو النزول درجة في أفقه والتحول إلى هدف “البقاء” متنازلاً عن طموحاته في الرئاسة بشكل مؤقت.
من جانب آخر، أزعم أن بريجوچين ربما قد تلقى وعوداً بتغيير قيادات الجيش كجزء من الصفقة التي أنهت حملة قواته التي كانت مخططة تجاه موسكو.
الأمور التي دفعت بريجوچين لقبول وساطة ليشينكو رئيس بيلاروسيا للتفاوض والمقايضة نظير الضمانات الأمنية والاستغناء عن خدمات القائدين الروسيين (عدواه اللدودين) شويجو وجرايسموف.
النتيجة:
تحمل أمرين كسلاح ذو حدين:
الأول: نجاح بوتين وليشينكو في إدارة الموقف لصالحهما بمزايا مختلفة.
الثاني: تأكد هشاشة نظام بوتين الحاكم وعدم قدرته على فرض تحضيرات مسبقة تضمن تماسك بلاده وبما يحميها من براثن الإنهيار والتفكك، كما أن حل الأزمة لم يكن بالقوة الحاسمة ولا بالإقناع من مركز قوة من جانب بوتين شخصياً، ولكن بواسطة رئيس دولة حليف (ليشينكو) يعتبره بوتين هو ودولته ملكاً للإتحاد الروسي وليس حليفاً مناظراً له بمعنى الكلمة.