دكتور ســــيد غنــــيم، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا، أستاذ زائر بالناتو ورئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع.
أولاً: مقدمة
أعلنت اللجنة الانتخابية في إيران السبت 19 يونيو 2021 فوز إبراهيم رئيسي بنسبة (61,95%) من الأصوات في الانتخابات الرئاسية، فيما بلغت نسبة المشاركة في عملية الاقتراع التي جرت في اليوم السابق (48,8%)، وهي الأدنى لاستحقاق رئاسي في تاريخ الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها عام 1979، وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة 73%، وتبقى أدنى نسبة مشاركة في انتخابات رئاسية 50,6% (عام 1993). في حين شهدت الانتخابات التشريعية في فبراير 2020 نسبة امتناع قياسية بلغت 57%. وبفوز رئيسي يعود المحافظون الإيرانيون إلى السلطة بعد ثماني سنوات من حكم الإصلاحيين بقيادة حسن روحاني. ويخلف “رئيسي” الذي يتولى رئاسة السلطة القضائية منذ 2019، الرئيس المعتدل حسن روحاني الذي لا يحق له دستوريا السعي لولاية ثالثة متتالية. جديرٌ بالذكر أنه خاض السباق أربعة من المرشحين السبعة الذين صادق مجلس صيانة الدستور على ترشيحاتهم بينما انسحب الثلاثة الآخرون قبل الاقتراع (وهم الأقوى). وتعرض المجلس لانتقادات على خلفية استبعاده شخصيات بارزة. وبالتالي، لم يكن هناك مرشحون جديون في مواجهة “رئيسي”.
وخسر “رئيسي” انتخابات 2017 أمام روحاني، على رغم نيله 38% من الأصوات. ويتوقع أن يعزز فوز رئيسي إمساك التيار المحافظ بمفاصل هيئات الحكم، بعد فوزه في انتخابات مجلس الشورى (البرلمان) العام الماضي.
ورافق انتخاب “رئيسي” والذي يبلغ من العمر (60 عاماً) أسئلة عديدة حول الطريقة التي سيحكم بها البلاد، وموقفه من ملفات هامة كالنووي الإيراني ودفع عجلة إنعاش الاقتصاد بسبب العقوبات الأمريكية وجائحة فيروس كورونا.
ثانياً: هيكلة النظام السياسي الإيراني
وضح لي صديقي رشدي هلال سلامة، المستشار السابق بمكتب رعاية المصالح المصرية بطهران، أنه بالنظر إلى النظام السياسي الفريد في هيكلة النظام الإيراني، نجد أن المرشد الأعلى للإيراني هو الحاكم السياسي والديني الفعلي لإيران ويعتبر الركيزة الرئيسة لخيمة النظام الإسلامي في البلاد. يعتبر مستشارو جميع تخصصات المرشد الأعلى “أوتاد الخيمة”. إنهم الحكومة العليا التي تدير الدولة بالفعل، وليس وزراء حكومة روحاني.
يعتبر فيلق الحرس الثوري الإسلامي الذي يتمتع بقدراته العسكرية والأمنية والاقتصادية الذراع الرادعة القوية التي تعمل لصالح النظام الإسلامي وليس في مصلحة الدولة الإيرانية، حيث لا يمكن لغير أولئك الذين يؤمنون بالنظام ينضمون إليها، لكن الجمهور، في سن التجنيد، ينضمون إلى القوات المسلحة الإيرانية النظامية.
أما الحكومة الرسمية فتنفذ تعليمات وخطط مستشاري المرشد الأعلى. يرأس الحكومة رئيس منتخب، وكذلك ربط اقتصادي خاضع للاستخبارات الإيرانية (مؤسسة الخاضعين للقمع – بُنياد مستضعفين)، وجميعهم يمارسون السياسة تحت خيمة النظام الإسلامي ويحرصون على الحفاظ عليه. هذه الاختلافات في نظام الحكم الداخلي الإيراني مقارنة بأنظمة الحكم الأخرى في العالم، تُعد فعالة للوصول إلى هدف إيراني محدد او للخروج من مأزق. يجب ألا ننسى دعم رجال أسواق البازار (رجال الأعمال) للنظام وحجم الشراكات بينهم في الداخل والخارج في الولايات المتحدة وأوروبا والإمارات ودول أخرى.
ثالثاً: إبراهيم رئيسي ودوره المتوقع في منظومة الحكم الإيرانية
يحظى إبراهيم رئيسي بثقة قائد الثورة الإيرانية، وينحدر مثله من مدينة مشهد الدينية التي تقع شمال شرق إيران، حيث تم تعيينه من قبل خامنئي في 2016 على رأس المؤسسة الخيرية “أستان قدس رضوي” المكلفة بتسيير شؤون ضريح الإمام رضا (ثامن خليفة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام – حسب المذهب الشيعي) الذي يقع في نفس المدينة. ويعتبر ضريح الإمام رضا من بين أبرز مواقع الحج بالنسبة للمسلمين الشيعة ويجلب الكثير من الأموال لهذه المؤسسة الخيرية التي تقوم بعد ذلك باستثمارها. وتمتلك المؤسسة عقارات عديدة وأراضي زراعية وشركات في مجالات مختلفة، كالبناء والسياحة وصناعة المواد الاستهلاكية وهي توصف “بالدولة داخل الدولة الإيرانية”. وقد ترأس إبراهيم رئيسي مؤسسة “أستان قدس رضوي” لمدة ثلاث سنوات. الأمر الذي منحه قوة سياسية كبيرة ونفوذ كبير في أروقة الدولة الإيرانية، فيما حظي بدعم من قبل غالبية السياسيين والعسكريين الذين يسيرون البلاد. لكن بعدما بقي ثلاث سنوات في هذا المنصب، عينه القائد الأعلى للثورة الإسلامية رئيسا للسلطة القضائية الإيرانية في مارس 2019، وهو منصب حساس لا يتمتع بالحس السياسي، وكلفه بـ”مكافحة الفساد”.
وغداة تعيينه في هذا المنصب، شرع إبراهيم رئيسي في محاكمة مسؤولين إيرانيين كبار وقضاة بتهمة “الفساد”. كما قام باستغلال المحاكمات القضائية لإبعاد بعض المرشحين الذين كانوا من الممكن أن ينافسونه بقوة، على غرار المسؤول السابق عن السلطة القضائية “صادق لاريجاني”، وهو شقيق “علي لاريجاني” الذي رفض مجلس قيادة الثورة الإيرانية ملف ترشحه لاحتمال تورط أحد أقاربه في قضية فساد.
وطبقاً للمحلل الاقتصادي والمختص في الشؤون الإيرانية تييري كوفيل، يعتبر رئيسي من المدافعين عن الاقتصاد المسير من قبل الحكومات، فإن رئيسي معروف بدفاعه عن نمط اقتصادي مؤسسي تسيره الدولة، فليس من المتوقع كثيراً أن يفتح اقتصاد إيران للشركات الأجنبية دون موافقة صريحة من علي خامنئي. ويتوقع أن يواصل رئيسي الاستثمار في البنية التحتية لإيران، وفي مجالات أخرى، كالمياه والكهرباء والصحة، وهي مجالات تسيطر عليها المؤسسات الخيرية وكيانات شبه عسكرية تابعة للحرس الثوري الإيراني. ويعتقد باحثون أن الاستثمارات التي يقوم بها متعاملون شبه حكوميون (المؤسسات الخيرية، الحرس الثوري، جمعيات …) تمثل أكثر من 50% من الاقتصاد الإيراني. وغالبا ما يلف هذه الاستثمارات الغموض وانعدام الشفافية في التسيير.
وحول الاتفاق النووي الإيراني الذي هو حاليا موضوع المحادثات بين طهران والدول الغربية، يتوقع ألا يعارض رئيسي القرارات التي سيتم اتخاذها في هذا الصدد، فالقرار النهائي يعود دائما للقائد الأعلى للثورة الإسلامية الذي يقوم بتوجيه المحادثات كما يشاء.. ومن ثم فإن تصريحات رئيسي السلبية نسبياً تجاه بايدن لا أظن أنها تمثل جديته ومذهبه المقبل كرئيس لإيران. وعلى أي حال، وفيما يتعلق بقضية الاتفاق النووي والمفاوضات، سيحاول “رئيسي” الحصول على مزيد من الامتيازات ورفع العقوبات، بينما يدعو في الوقت نفسه إلى انسحاب الولايات المتحدة من العراق وأفغانستان والخليج.
ويخضع “رئيسي” لعقوبات أميركية وأوروبية، لاتهامه بانتهاك حقوق الإنسان نظراً لعضويته في “لجنة الموت”، التي أشرفت على إعدامات جماعية لسجناء سياسيين، في عام 1988، ولدوره في كبح اضطرابات شهدتها إيران عام 2019. ومن ثم، هناك آراء تشير إلى أن “رئيسي” رهن الاعتقال في أي مكان بالعالم، وفي أي وقت، كما حصل مع حميد نوري، المدعي العام السابق في سجن “رجائي شهر”، والمحتجز في السويد، لاتهامه بالتورط بأحداث 1988. إلا أن آراء أخرى ترى صعوبة فرض قيود على الرئيس الإيراني الجديد، بعدما أصبح رئيساً ويتمتع بامتيازات دبلوماسية. في كل الأحوال قد تسبب العقوبات الواقعة على “رئيسي” لحرج موقف الولايات المتحدة وأوروبا، ناهيك عن خبرة “رئيسي” المحدودة في إدارة الشؤون الخارجية.
ولا يحظى “رئيسي” بسمعة طيبة من قبل الجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان، خاصة تلك التي تمثل الجالية الإيرانية في الخارج، بل اسمه يذكّر بـ”الساعات المظلمة” التي مرت بها إيران عندما كان مسؤولا عن السلطة القضائية للبلاد.
ولا ينتظر انفتاح “رئيسي” على الغرب على عكس روحاني والتوجه الجديد لأحمدي نجاد، فرئيسي معروف بفكره “المحافظ”. وقد منع في 2016 حفل فني من نوع “البوب” في مدينة “مشهد” الدينية بينما سمح بتنظيم نفس الحفل في مدن إيرانية كبرى أخرى.
ويرى بعض الباحثين في “رئيسي” أنه الخليفة المحتمل للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، الذي يعاني من المرض منذ عدة سنين. فإضافة إلى أنه كان تلميذه في مدرسة دينية بمدينة مشهد، فهو ينفذ كل قراراته ويستمع إليه ولا يمكن أن يخالفه في المواقف.
وشغله لمنصب نائب رئيس مجلس الخبراء الإيراني سابقاً، والذي يملك الصلاحية الكاملة في تعيين خلف للمرشد الأعلى في حال توفي هذا الأخير، قد يمنحه فرصاً أكبر لتولي منصب المرشد الأعلى للجمهورية مكان خامنئي في يوم من الأيام. وانتخابه رئيسا جديدا لإيران يزيده فرصا للوصول إلى ذلك.
وجديرٌ بالذكر أن علي خامنئي كان هو أيضاً رئيساً لإيران قبل أن يعين في 1989 مرشدا أعلى للثورة الإسلامية إثر وفاة الإمام الخميني.
طبقاً لما أعلنه رئيسي على موقع حملته الانتخابية هناك ثلاث ركائز رئيسية للسياسة الخارجية الإيرانية كالآتي:
الأمن من مبدأ السلطة.
السلام من مبدأ القوة.
التفاوض والدبلوماسية من مبدأ العزة والمنفعة.
وحسب القائد السابق في الحرس الثوري الإيراني “حسين كنعاني مقدم” في حواره مع قناة الجزيرة القطرية، أنه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، هناك خارطة طريق يحددها المرشد الأعلى وسينفذها إبراهيم رئيسي، وتتضمن محورين:
المحور الأول: تقوية المقاومة وتطوير العلاقات مع الجيران والدول الإسلامية والعربية.
المحور الثاني: مواجهة الصهيونية والغطرسة ومواجهة أعمالهم التخريبية ضد الجمهورية الإسلامية.
رابعاً: الملف النووي
سبق أن صرح رئيسي خلال مناظراته مع مرشحي الرئاسة بأنه يجب الالتزام بالاتفاق النووي كعقد من (9) بنود وافق عليه المرشد الأعلى، وكالتزام يجب على الحكومات القيام به. وقال رئيسي وقتها إن الحكومة الحالية لا يمكنها الالتزام بالاتفاق النووي والذي يحتاج تنفيذه لحكومة قوية، والإرادة الخارجية هي امتداد للإرادة الداخلية.
ويبدو أن “رئيسي” غير مستعد للانسحاب من القضية النووية وسوف يلتزم بها. ولكن لكي يرفع الجانبان الأميركي والأوروبي العقوبات عن إيران، فإن الحكومة الإيرانية الجديدة ستتبع سياسات أكثر جدية كي تتماشى مع أهداف إيران المتمثلة في رفع العقوبات كلياً. ومن المحتمل أن تنفذ حكومة رئيسي بالكامل خطة العمل الاستراتيجية لمجلس النواب (تقليل وإلغاء التزامات إيران بشأن القضية النووية) والتي لم ينفذها روحاني حتى الآن.
خامساً: العلاقات الإيرانية الخارجية
على الصعيد الإقليمي، أعلن إبراهيم رئيسي في عدة مواضع أنه سيتجه إلى مبدأ “التعاون الوثيق وتبادل المنافع مع جميع الجيران”، ووضع الأساس لذلك بهدف الحفاظ على الإنجازات وتعميق السلام والاستقرار الإقليميين، باعتبار هذا المبدأ من الأولويات الأولى لسياسته الخارجية تجاه الدول العربية ودول الجوار الإقليمي.
ويعتقد “رئيسي”، وطبقاً لتصريحاته في مايو 2021 أثناء تسجيله للانتخابات الرئاسية، أن “السياسة الخارجية للنظام هي التفاعل مع جميع الدول وخاصة الجيران، حيث إنه سيتفاعل مع أولئك الذين لا ينوون أن يكونوا أعداء، بطريقة ودية وكريمة وموثوقة”.
ومما تقدم، من المحتمل أن تميل حكومة رئيسي إلى زيادة علاقات إيران مع الدول العربية والدول المجاورة مثل العراق وسوريا واليمن والسلطة الفلسطينية، لأنها معترف بها كجبهة المقاومة في سياسة إيران الخارجية كما ستعمل الحكومة الجديدة على توثيق العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية وخاصة دول الجوار. من جانب آخر، قد تلجأ إيران إلى مسارات التهدئة مع الدول العربية الفاعلة وأهمها هنا السعودية والإمارات.
وعلى الصعيد الدولي، من المُرجح أن ينتهج “رئيسي” سياسة خارجية برجماتية مغلفة بنبرة أيديولوجية. ولم يلمّح “رئيسي” من قد يخلف محمد جواد ظريف، خاصة أن ظريف أقر بهيمنة “الحرس الثوري الإيراني” على عمل وزارة الخارجية، الأمر الذي أثار عاصفة انتقادات في طهران. ويتوقع عدم خوض طهران مجدداً مواجهة عنيفة مع الغرب بقيادة “رئيسي”، حيث يحتاج الإيرانيون إلى تعزيز وضعهم في الداخل. ويتوقع أن يضم فريق “رئيسي” للسياسة الخارجية موفدين محافظين ودبلوماسيين غير معروفين من الحرس الثوري الإيراني.
ويتوقع باحثون أن ينتهج “رئيسي” سياسة “الاقتصاد المقاوم” التي يروّج لها خامنئي، والقائمة على التصنيع المحلي، وشركاء داعمين، مثل الصين وروسيا، في إطار استراتيجية “التحوّل شرقاً”.
هذا المقال يتضمن يتضمن اقتباسات من تحقيقات صحفية وأخبار من عدة مصادر وهي بي بي سي، والشرق الأوسط، والشرق، وفرانس 24، ودويتش فيله، فضلاً عن قنوات الاتصال الشخصية مع رسميين ومتخصصين حول العالم.