دكتور سَــــيْد غُنــــيْم، دكتوراه العلوم السياسية من جامعة بورسعيد، وزميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا، هو رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع، والأستاذ الزائر بالأكاديمية العسكرية الملكية ببروكسل
مساء الخميس 10 نوفمبر 2022، يوم 259 عمليات
روسيا تضم خيرسون في سبتمبر وتنسحب منها في نوفمبر
روسيا تنسحب من أراضيها
“التي ضمتها من طرف واحد”
أولاً: الإجراءات السابقة
في الوقت الذي يتصارع فيه يفجيني بيرجوجين ممول فاجنر بشكل متزايد مع مسؤولي سانت بطرسبرغ حول توسيع توظيف عناصره في المدينة.
في الوقت الذي تواصل فيه القوات الروسية هجومها بالقرب من باخموت وأفدييفكا وفي غرب دونيتسك. تواصل القوات الأوكرانية شن عمليات هجوم مضاد على خط (سفاتوف – كريمينا).
بدأت القوات الروسية ببناء تحصينات الخط الثاني في شبه جزيرة القرم وجنوب أوكرانيا.
يوم الأربعاء 09 نوفمبر 2022، خلال اجتماع رسمي تم بثه تليفزيونياً على الهواء مباشرة، أوصى القائد العام للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا چنرال سيرجي سوروڤيكين بانسحاب القوات الروسية من غرب نهر دنيبرو إلى شرق، وقبل وزير الدفاع الروسي شويغو قراره بشكل علني. فأصدر سوروڤيكين قرار مهمة ضمان “النقل الآمن للأفراد والأسلحة والمعدات إلى الضفة الشرقية للنهر.
وقد تقدمت القوات الأوكرانية بشكل مطرد في خيرسون يوم 10 نوفمبر حيث قامت القوات الروسية بالانسحاب إلى الضفة الشرقية (اليسرى) لنهر دنيبرو.
لا شك أنه بعد ثلاث انسحابات غير منظمة من كييف وخاركيف وليمان، فإن بوتين وقادته العسكريين يهتمون بتصوير انسحاب القوات الروسية من خيرسون على إنه ارتداداً استراتيجياً منظماً، يحقق هدفاً استراتيجياً مُحدداً وطبقاً لتخطيط موضوع من قبل، إرتداد بإرادة روسية خالصة، وليس (رد فعل مُجبرين على تنفيذه) أمام ضغط القوات الأوكرانية، رغم الضربات الصاروخية القوية ضد بنيتهم التحتية منذ يوم 10 أكتوبر.
ثانياً: التقدير:
أعلن سوروڤيكين أن الهدف من الانسحاب من حيرسون غرب النهر هو”الحفاظ على الكفاءة القتالية للقوات الروسية في خيرسون”. ويدعم الخبراء الروس والأجانب المقيمون في روسيا هذا الهدف على أساس عزم القيادة العامة الروسية على استغلال أعمال التعبئة الجزئية ورفع نسب الاستكمال استعداد لشن هجوم شامل ضد القوات الأوكرانيا وبما يحدث تحولاً استراتيدجياً في الموقف لصالح القوات الروسية (استعادة المبادأة والتحول من الدفاع إلى الهجوم) على كافة محاور مسرح العمليات الأوكراني”.
ويرى الجانب الأوكراني، أن الانسحاب الروسي من الضفة الغربية لنهر دنيبرو فخاً يهدف إلى جذب القوات الأوكرانية إلى قتال مكلف بالقرب من مدينة خيرسون ، كما أشارت بعض المصادر الأوكرانية والغربية. وقد لاحظنا سابقاً العديد من المؤشرات على انسحاب القوات الروسية فضلاً عن العناصر المدنية ومعهم أصولهم وممتلكاتهم بشكل مطرد من الضفة الغربية عبر نهر دنيبرو، وكان المسؤولون الروس ينفذون الانسحاب بطريقة لا تتوافق فكرة خداع القوات الأوكرانية. ومع ذلك، فإنه لا يمنع أن القوات القائمة بتغطية القوات المرتدة ستحاول بالتأكيد إبطاء التقدم الأوكراني للحفاظ على انسحاب منظم ، وقد تظل بعض القوات لتأخير القوات الأوكرانية في مدينة خيرسون نفسها – لكن هذا القتال سيكون وسيلة لإنهاء سحب أكبر عدد ممكن من الوحدات الروسية في حالة جيدة
ورغم وجاهة الهدف الروسي، ارتباطاً بمدى احتياج الروس قادة وشعباً لتحقيقه، ووجاهة فكرة القيادات الأوكرانية والغربية بشأن إعداد فخ لقواتها، إلا أنني ارى الموقف من زاوية أخرى، ومن ثم، سأتناول تقدير المشهد من خلال تقييم العوامل الحيوية للحرب في المرحلة الجارية وهي: “الأرض، والتخطيط، والمعلومات، والقوات، والوقت، وأسلوب القتال” وذلك من خلال ثلاث مكونات رئيسية للحرب: (المكون المادي – المكون الفكري – المكون المعنوي).
تقييم العوامل الحيوية للحرب في هذه المرحلة:
عامل الأرض (المكون المادي):
يتواجد الحجم الأكبر من الأرض في ولاية خيرسون في المنطقة الواقعة شرق نهرد دنيبرو وليس غربه، وهي أرض تزداد انخفاضاً كلما اتجه التقدم جنوباً وغرباً، وبما يتيح للقوات الأوكرانية، حالة استمرار هجومها السيطرة عليها حالة عدم تحصينها في دفاعات كجهزة. ولذا قامت جماعة فاجنر بالتعاون مع القوات الروسية بتجهيز دفاعات متكاملة تتضمن الخنادق والألغام والتكسيات الخرسانية في بعض مناطق بها وبما وقاية للقوات ومصادر النيران، ويحقق لها إمكانية إعاقة القوات الأوكرانية من عبور النهر والتقدم جنوباً وغرباً.
ويمكن تحويل مدينة خيرسون شرق النهر إلى منطقة عازلة تؤمن شبه جزير القرم من الشمال ضد أي محاولات أوكرانية لتهديدها بشكل مباشر أو حصارها، خاصة بعد تدمير جسر كيرتش الذي يصلها بغرب روسيا عبر بحر آزوف.
عامل التخطيط (المكون الفكري):
كنت قد أشرت في تقديري رقم (24) الصادر بتاريخ 11 يونيو، بشأن تخطيط القيادة العامة الروسية لإنشاء محور اتصال بين إقليم دونباس عبر خيرسون وإقليم “ترانسنيستريا” المولدوڤي وبما يحكم السيطرة على مدينتي ميكولايف وأوديسا. وبالفعل، في مطلع شهر أكتوبر الماضي، أعدت القوات الروسية لتنفيذ ذلك من خلال استناداً على السيطرة الكاملة على المحاورة الواصلة من دونباس إلى خيرسون، تقوم القوات الروسية بتأمين محور اقتراب واصل من خيرسون (غرب نهر دنيبرو) إلى شرق مولدوڤا للاتصال مع المتمردين الموالين لروسيا في إقليم ترانسنيستريا، وبما يمكن من قطع طرق الاتصال بين كييڤ وأوديسا، وخاصةً الطريق الدولي العرض الرئيسي Odessa Road، مما يهيئ الظروف لتطويق المدينتين الاستراتيچيتين ميكولايف وأوديسا. الأمر الذي جعل وجود موطئ قدم للقوات الروسية على الضفة الغربية لنهر دنيبرو هدفاً استراتيجياً لا يمكن التنازل عنه. يأتي ذبك بالتزامن مع الضربات الصاروخية والدرونز المكثفة ضد منشآت الطاقة والمياه الأوكرانية لهزيمة الإرادة الأوكرانية وتشتيت قيادتها عن الاستمرار في الهجوم على كافة المحاور التعبوية ومنها غرب النهر في خيرسون، الأمر الذي يدعمه نشر 9000 جندي روسي وخوالي 6000 جندي بيلاروسي شمال جوميل في بيلاروسيا لهدف جذب حجم مناسب للقوات الأوكرانية لها وتشتيت الجهود الأوكرانية أيضاً عن خيرسون. إلا أن تلك الإجراءات لم تحقق الهدف منها واستمرت القوات الأوكرانية في الهجوم بشكل عرض القوات الروسية غرب النهر للخطر.
كما أشرت أيضاً في تقديري رقم (38) الصادر بتاريخ 22 أكتوبر، أن المشكلة الرئيسية التي لم تتغير طوال الحرب، وبدت واضحة في خيرسون، هي عدم تطابق القرارين والهدفين الاستراتيجي السياسي والعسكري، حيث إن بوتين مصمم على عدم الانسحاب من خيرسون، أما رئيس الأركان الروسي جنرال جيراسيموف، والقائد العام للعملية الروسية الجديد جنرال سوروڤيكين، كلاهما يرى ضرورة انسحاب القوات الروسية غرب نهر دنيبرو في خيرسون إلى شرق النهر. حيث استهدف جيراسيموف وسوروڤيكين من ذلك (طبقاً لتقدير الأوكرانيين والناتو) إشراك قوات أوكرانية كبيرة في الهجوم على مناطق غرب نهر دنيبرو في خيرسون لتدميرها بضربة قوية.
إلا أنني اري أن الهدف الأهم للقوات الروسية هو “توفير حجم مناسب من القوات الروسية شرق نهر دنيبرو لتأمين المنطقة العازلة لشبه جزير القرم، وبما يهيئ الظروف للقيادة العامة للقوات الروسية للتركيز على إقليم دونباس لتطهيره من القوات الأوكرانية واستكمال الاستيلاء عليه”.
عامل القوات (المكون المادي):
يتواجد حجم كبير من القوات الروسية خاصة قوات النخبة مثل الفرقة 76 والفرقة 106 المحمولين جواً والفيلق 22 التابع للجيش، وعناصر من القوات الخاصة الروسية VDV وقوات مشاة البحرية، فضلاً عن عناصر “جراي زون Gray Zone” التابعة لمجموعة فاجنر. وجميعها قوات عالية الكفاءة، إلا انها في خطر شديد أمام حجم كبير من القوات الأوكرانية تحقق نسبة مقارنة لصالحها (4 : 1)، وبما يعرض قوات النخبة الروسية للهلاك أو الأسر. من ناحية أخرى تحتاج المنطقة العازل في إقليم خيرسون شرق النهر، وجبهة ولاية دونيتسك في إقليم دونباس المتعثرة منذ شهر يونيو، لحجم أكبر من القوات، خاصة قوات النخبة لرفع من كفاءتها القتالية وبما يمكنها على الأقل من الاحتفاظ بما حققته من مكتسبات وضم أراضي جديدة ولو مدينة باخموت الاستراتيجية على الأقل، التي تقاتل للاستيلاء عليها منذ خمسة أشهر دون جدوى.
من جانب آخر، فقد أقر سوروڤيكين بشكل مباشر بأن القوات الروسية لا تستطيع إمداد تجمعاتها في مدينة خيرسون والمناطق المحيطة بها بسبب الضربات الأوكرانية على خطوط الإمداد الروسية الهامة إلى الضفة الغربية. وأشارت مصادر روسية إلى أن الانسحاب هو نتيجة طبيعية للضربات الأوكرانية الموجهة والممنهجة التي كلفت التجمع الروسي على الضفة الغربية شريان إمداد رئيسي له، الأمر الذي أضعف تدريجياً قوتهم وقدراتهم الإجمالية.
عامل المعلومات (المكون الفكري):
ما زالت القوات الروسية تعاني من فقر شديد في المعلومات مقارنة بخصمها الذي تهيئ له الولايات المتحدة والناتو معلومات محدثة ومدققة بشكل موقوت عن القوات الروسية، الأمر الذي يجبرها على التنازل عن الأراضي غير المؤمنة (كما الوضع غرب نهر دنيبرو) والتي قد توفر عنصر المفاجأة للخصم وبما يؤدي لنجاح القوات الروسية في تطويق القوات الروسية غرب النهر واسرها او تدميرها.
عامل الوقت (المكونات الثلاث):
يأتي قرار القيادة العامة الروسية مع قرب انتهاء الخريف والذي تساقطت فيه أوراق الشجار التي تخفي القوات المتمركزة على اتصال في دونباس وخيرسون، وقرب حلول الشتاء بنهاية شهر نوفمبر الذي يلحقه كثافة الجليد، مما يزيد احتياج كلا القوات الروسية والأوكرانية للاحتماء من العراء سواء من ملاحظة العدو أو كثافة نيرانه، فيجبر القوات التي في وضع دفاعي للارتداد للتجهيزات الهندسية المحصنة وإلى القرى والمدن، حيث الإيواء والدفء.
عامل أسلوب القتال (المكون الفكري):
أتوقع ان تميل القوات الروسية لتحصين أفرادها ومعداتها، وتوفير حجم مناسب من القوات المدافعة غرب خيرسون بجانب القوات المعبأة حديثاً، للدفاع عن ولايتي دونيتسك ولوهانسك في إقليم دونباس، مع إمكانية توفير حجم من القوات للتحول للهجوم (وطبقاً للظروف الجوية وأحوال الشتاء) خاصة في دونباس شرق أوكرانيا لتحريره والاستيلاء على المدن المتبقية في دونيتسك، وبما يمحي فكرة الهزيمة الروسية تماماً من تركيز أوكرانيا والغرب.
العامل المعنوي (المكون المعنوي):
منذ المرحلة الأولى، تواجه القيادة العامة الروسية مشكلة فقدان عنصر المبادأة، والتي تحاول القوات الروسية استعادتها منذ شهر إبريل حتى الآن، وفي كل مرة تفشل في ذلك. ومع تكرار فشل القوات الروسية في استعادة المبادأة تهتز صورة القيادة العسكرية الروسية والجيش الروسي، ومعهما صورة الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين “القيصر – الدب القوي – الثعلب الماكر – لاعب الجودو – …) وغيرها، مما أضعف هيبة بوتين وقادته السياسيين والعسكريين أمام شعبه خصيصاً، خاصة مع فشل القوات الروسية في تحقيق الحسم العسكري. الأمر الذي دعى بوتين في البداية للإصرار على عدم انسحاب القوات الروسية من غرب النهر أمام إصرار قادته العسكريين الذي تأكدوا من احتمال هلاك قواتهم او أسرها حالة عدم انسحابها.. ومع قبول بوتين أخيراً، كان أفضل شكل لحفظ ماء الوجه وسمعة بوتين وقادته العسكريين، هو إعلان الانسحاب تليفزيونياً أمام العالم والشعب الروسي على إن قرار الراتداد كان مخططاً، وفي إطار احتفاظ روسيا بالمبادأة واستمرار سيطرتها على زمام الأمور.
وبالفعل، انحاز العديد من الأصوات البارزة من المدونين العسكريين الروس على قنوات تيليجرام إلى سوروڤيكين، وأشادت بالقرار باعتباره ضرورياً، مما يشير إلى أن القيادة الروسية تعلمت من الآثار النفسية للانسحاب الروسي الكارثي من خاركيف في منتصف سبتمبر. وأعرب ممول مجموعة فاجنر بريجوجين عن دعمه للانسحاب ووصفه بأنه “أعظم إنجاز” حققه سوروڤيكين بسبب رغبة سوروڤيكين المعلنة في الحفاظ على سلامة القوات الروسية. واتفق الزعيم الشيشاني رمضان قديروف مع تقييم بريجوجين وصرح بأن سوروڤيكين أنقذ آلاف الأرواح ويسعى لتحقيق الأفضل. وهو ما يختلف كلياً مع الانتقادات اللاذعة التي وجهها كل هؤلاء سابقاً إلى قائد القوات الروسية السابق في أوكرانيا “جنرال ألكسندر لابين”، بعد خسائر وانسحابات القوات تحت قيادته في شرق خاركيف وأقاليم دونيتسك الشمالية. فقد نجح سوروڤيكين في إنشاء غطاء إعلامي لاتخاذ قراراته والانسحاب الروسي النهائي من خيرسون منذ تعيينه في منصبه. وأتذكر تمهيدات سوروڤيكين بتصريحه السابق في 19 لكتوبر وقد أشرت له وقتها، حين قال “ستحتاج القيادة الروسية إلى اتخاذ قرارات صعبة بشأن خيرسون”.
إلا أنه في المقابل، أكد العديد من المدونين الروس أن الانسحاب هو النتيجة الطبيعية للفشل المنهجي داخل الهياكل العسكرية والقيادية الروسية وصاغوا الانسحاب على أنه نتيجة حتمية للفروق السياسية التي تتجاوز نطاق السيطرة العسكرية. وأكدت مصادر روسية أيضاً أن هذه هزيمة كبيرة للقوات الروسية لأنها تخسر أراض ضمتها روسيا لها، ولكنها تفقدها يوماً بعد يوم.
جديرٌ بالذكر أن بوتين لم يعلق حتى ألان على إعلان قرار الانسحاب من خيرسون، مما قد يشير إلى أن الكرملين يصور الانسحاب باعتباره قرار عسكري بحت.
ثالثاً: استنتاجات وتوقعات مستقبلية:
سيستغرق الانسحاب الروسي المُعلن عنه من خيرسون بعض الوقت حتى يكتمل، وسيستمر القتال في جميع أنحاء منطقة خيرسون بينما تتقدم القوات الأوكرانية وتصطدم بخطوط دفاعية روسية معدة مسبقاً، خاصة حول مدينة خيرسون غرب النهر.
لا نعتقد أن القتال في أوكرانيا سيتوقف بشكل كلي أو يدخل في طريق مسدود بسبب طقس الشتاء.
تستمر القوات الأوكرانية في الاحتفاظ بالمبادأة، وهي بصدد تحقيق نصر كبير في خيرسون. من شأن وقف إطلاق النار أن يوفر للكرملين وقفة يحتاج إليها بشدة لإعادة تشكيل القوات الروسية.
مع العجز في الذخائر الذكية، من المتوقع أن تبطئ القوات الروسية وتيرة ضرباتها ضد البنية التحتية الأوكرانية.
-
المصادر:
– مصادر علنية.
– مصادر خاصة.
– نقاشات ولقاءات دورية.