الأربعاء 12 سبتمبر 2022
أولاً: الموقف الاستراتيجي السياسي العسكري:
كنت قد توقعت في نهايات تقديراتي أرقام 31 و32 و33 أن بوتين قد يضطر للتعجيل بتنفيذ ما حاول تجنبه، وهو إعلان التعبئة العامة والتحول لحرب شاملة ليحشد أكبر قدر من القوات الاحتياطية الروسية. ولكن هناك تخوفات من جانب بوتين عطلته كثيراً دون أن يلجأ لهذا الاحتمال.
واليوم 21 سبتمبر 2022، خلال خطابه، اعترف بوتين بالفعل بالمشاكل المنهجية للحكومة والجيش الروسيين. كان التركيز في خطابه على حقيقة أن روسيا الاتحادية ليست في حالة حرب مع أوكرانيا، ولكنها في حالة حرب مع الغرب بأكمله وحلف الناتو. الأمر الذي دعى بوتين إلى إلان التعبئة الجزئية للقوات الروسية.
من ناحية أخرى، أعلن المسؤولون المعينون من قبل روسيا في مقاطعات لوهانسك ودونيتسك وخيرسون وزابورودجيا في 20 سبتمبر أنهم سيجرون “استفتاءً” بشأن الانضمام إلى روسيا، على أن يتم التصويت في الفترة من 23 إلى 27 سبتمبر. سيستخدم الكرملين النتائج المزيفة لهذه الاستفتاءات لضم جميع الأجزاء التي تحتلها روسيا من أوكرانيا، ومن المرجح أن يعلن الأجزاء غير المحتلة من ولايات دونيتسك وخيرسون وزابورودجيا جزءاً من روسيا أيضاً.
تستهدف خطط الضم التي وضعها الكرملين بشكل أساسي المواطنين المحليين. من المحتمل أن يأمل بوتين في تحسين قدرات تكوين القوات الروسية من خلال دعوة الشعب الروسي إلى التطوع لخوض حرب من أجل “الدفاع” عن الأراضي الروسية المطالب بها حديثاً. لقد أدرك بوتين ومستشاروه على ما يبدو أن القوات الروسية الحالية غير كافية لغزو أوكرانيا وأن الجهود المبذولة لبناء قوات كبيرة بسرعة من خلال التعبئة التطوعية لا تفي بمتطلبات القوة العسكرية الروسية. لذلك من المرجح أن يضع بوتين شروطًا قانونية وإعلامية لتحسين تكوين القوات الروسية دون اللجوء إلى توسيع نطاق التجنيد عن طريق تغيير ميزان الجزرة والعصي التي يستخدمها الكرملين لتحفيز التجنيد الطوعي.
قد يعتقد بوتين أنه يستطيع مناشدة القومية العرقية الروسية والدفاع عن “الشعوب الروسية” المزعومة والمطالبة بالأراضي الروسية لتوليد قوات إضافية من المتطوعين. قد يسعى إلى الاعتماد على الخطاب المعزز جزئيًا لأن الكرملين لا يستطيع تحمل حوافز الخدمة ، مثل المكافآت ومزايا التوظيف ، التي وعد بها المجندين الروس بالفعل.
لكن بوتين يضيف أيضًا عقوبات جديدة وأكثر قسوة في محاولة لاحتواء خطر انهيار الوحدات العسكرية الروسية التي تقاتل في أوكرانيا والتهرب من التجنيد داخل روسيا. سارع الكرملين إلى تمرير قانون جديد عبر مجلس الدوما في 20 سبتمبر، متحايلا على الإجراءات البرلمانية العادية. يقنن هذا التشريع عقوبات متزايدة بشكل كبير على الفرار من الخدمة العسكرية ورفض أوامر التجنيد والعصيان. كما يجرم الاستسلام الطوعي ويجعل الاستسلام جريمة يعاقب عليها بالسجن لمدة عشر سنوات. لا يأمر القانون بشكل خاص بتعبئة واسعة النطاق أو تجنيد إجباري أوسع أو اتخاذ أي استعدادات لمثل هذه الأنشطة.
ثانياً: التحديات التي تواجهه تعبئة القوات الروسية:
في رأيي، الحرب مستمرة في أوكرانيا. ولم تحقق روسيا أهدافها بالقدر الأدنى، على الأقل خلال أكثر من ستة، بل على العكس، اظن ان ما تحقق على كافة الأصعدة عكس تلك الأهداف الروسية المرجوة.
علاوة على ذلك، نجد خلال المرحلة الثالثة من الحرب أن القوات الروسية تواصل فقدان الأراضي التي نجحت في الاستيلاء عليها. حيث تجاوز عدد خسائر القوات المسلحة الروسية جميع الحسابات والتوقعات العالمية بشكل كبير. ولذا فإن إعلان التعبئة ستؤدي إلى دفع قوات الاحتياط الروسية للمشاركة في الحرب ضد أوكرانيا، والذي في رأيي لن يغير كثيراً في الوضع العسكري الحالي وذلك نتيجة لتحديات واقعية من وجهة نظري. ونجد أن بوتين قد أعلن اليوم عن تعبئة جزئية من المقرر خلالها حشد حوالي 300 ألف رجل من القوات الاحتياطية من المسرحين الذين لديهم خبرة قتال.
وفي رأيي، وحسب المعلومات الواردة، من المتوقع أن تسلط التعبئة الضوء على عدد أكبر من التحديات التي تواجه روسيا، وهي:
عدم استعداد القوات الروسية، وفي مقدمتها القيادة العامة للقوات الجوية المسلحة، للقيام بمثل هذا التعبئة.
عدم جهازية المعدات العسكرية، المُخزنة في المستودعات، لتزويد القوات والوحدات الجديدة المعبئة.
الاضطرار لتنفيذ تدريبات أساسية وتخصصية على وجه السرعة للقوات والوحدات الجديدة.، وهو أمر غير متاح بشكل كبير.
تعاني القوات المسلحة الروسية من نقص حاد في القادة ذوي الخبرة الكافية لقيادة الوحدات الجديدة وقوات تستعيد خبراتها.
ضعف الانضباط وانخفاض متوقع في الروح المعنوية بين القوات المُعبئة داخل الوحدات الجديدة.
بالإضافة إلى ذلك، ستتطلب التعبئة تكاليف إضافية كبيرة، والتي مع تشديد العقوبات ضد روسيا، والتي تستهدف إضعاف الاقتصاد الروسي بشكل رئيسي.
ما سبق منتظر أن يؤدي لتباطؤ عملية التعبئة، وربما والفشل في تحقيق النتيجة التي يتوقعها نظام بوتين.
ثالثاً: الإجراءات المتوقعة:
من المتوقع أنه من خلال التعبئة الجزئية، يعتزم نظام بوتين وقف تقدم قوات الدفاع الأوكرانية ومعاودة التحول للهجوم في منطقة دونيتسك والجزء الجنوبي الغربي من أوكرانيا.
لا استبعد أيضاً قيام القوات الروسية بتنفيذ هجمات جديدة في الاتجاهين الشمالي تجاه محيط خاركيڤ، والاتجاه الشمالي الشرقي تجاه محيط العاصمة كييڤ.
في الوقت نفسه، وارتباطاً بإشارة بوتين خلال خطابه إلى دعمه لما يسمى بالاستفتاءات في الأراضي المحتلة، من الواضح أن بوتين يعتزم إجراء استفتاءات في مناطق دونيتسك ولوهانسك وزابوريدچيا وخيرسون، وإعلانها على مراحل أراضي تابعة لروسيا الاتحادية، لإظهار ان تحرير الأراضي المحتلة مؤقتاً من قبل قوات الدفاع الأوكرانية على أنها هجوماً على أراض روسية، مما يسمح له استخدام أسلحة فتاكة.
على الصعيد الاقليمي، أتوقع قيام دول البلطيق وعلى الأخص ليتوانيا وربما لاتفيا لقربهما من مدينة ليننجراد الروسية على بحر البلطيق، ربما من جانب آخر فنلندا، رفع درجات استعداد قواتها المسلحة للرد السريع إذا تطلب الأمر.
من المحتمل زيادة أخرى في أسعار النفط وكذا في قيمة الدولار الأمريكي ارتباطاً بإعلان بوتين التعبئة الجزئية لقواته أي استمرار التصعيد العسكري.
رايعاً: ماذا يعني قيام بوتين بإعلان التعبئة الجزئية للقوات المسلحة الروسية وإصدار أوامره للحكومة بدعم الجيش؟
السيناريو الأسوأ لروسيا والجدير بالدراسة:
ارتباطاً بالوضع الحالي لمسرح العمليات الروسي في أوكرانيا أرى أن التسلسل منطقي حتى الآن حيث أن ما يتم حالياً هو السيناريو الأسوأ لروسيا، كالآتي:
إعلان التعبئة (الجزئية) للقوات الروسية لزيادة القدرات في مسرح العمليات بهدف مجابهة الخسائر واحتمالات الهزائم، وهو ما يشير إلى نية معاودة القوات الروسية للتحول للهجوم. حيث فشلت القوات العاملة على الأرض، والتي تحولت للدفاع على كافة المواجهة، في صد الهجمات المضادة الأوكرانية، وأُجبرت القوات الروسي، ليس فقط على الإستمرار في التحول للدفاع، بل أُجبرت على الإنسحاب غير المنظم والسريع للغاية على أحد الإتجاهات التعبوية.
ثم احتمال استمرار السيناريو الأسوأ، حيث يتم إعلان التعبئة (العامة) للقوات المسلحة الروسية لمضاعفة حجم القوات بغرض مواجهة الهزائم على الأرض، والعمل بكل قوة على صد العدو الأوكراني المهاجم، وإجباره على التوقف والتحول للدفاع مرة أخرى.
ثم احتمال تفاقم السيناريو الأسوأ، أي إعلان الهزيمة، مع احتمالات تهديد كيان الدولة الروسية، فتلجأ روسيا لاستخدام سلاح الردع.. وهو السيناريو المفروض تجنبه أو عدم الوصول إليه من قبل جميع الأطراف، نظراً لشدة خطورة تداعياته في رأيي على الجميع، بل وعلى روسيا نفسها.
ثانياً: لماذا الآن؟
أعتقد أن شويجو وزير الدفاع الروسي وچنرال جراسيموف رئيس أركان حرب القوات الروسية يفكرا بشكل جدي في إعداد القوات الاحتياطي المخطط استدعاؤها والتي قد تصل أو تتخطى 300 ألف مقاتل على الأقل ستحتاج إعداد وتجهيز في عناصر الكفاءة القتالية الخمس بدرجة عالية التركيز والتي تحتاج أربعة أشهر على الأقل. وأظن أنهم يرون فترة الشتاء وحتى شهر يناير ربما كافية لذلك ولنشرهم في مسرح العمليات ليكونوا جاهزين لتنفيذ خطة معاودة الهجوم مع ذوبان الجليد. وهذا لن يمنع محاولات إستعادة أي أراضي إن أمكن بواسطة القوات الروسية العاملة والمنتشرة حالياً في مسرح العمليات.
أما بشأن الجنود المستجدين أي ليس الجنود الاحتياط، فطبقاً للدستور الروسي ودواعي الحرب، فهم يحتاجون أيضاً لأربعة أشهر للتدريب الأساسي والتخصصي استعداداً للحرب.
خامساً: التداعيات:
تداعيات إعلان التعبئة:
في رأيي تداعيات التعبئة تحمل أعباءً أكثر من المنافع على بوتين وعلى هيئة قيادته. أهمها أعباء اجتماعية وسياسية داخلية ناتجة عن ضغوط داخلية من الأهالي الروس مدفوعين من المعارضة، خاصة أن صورة بوتين في الداخل ستظهر على أنه لم يستطع تحقيق أهدافه المُعلنة بالقوات المتاحة في أيام أو حتى في شهور قليلة بقوات محدودة كما وعد. وأعباءً اقتصادية ثقيلة ارتباطاً بتكاليف التعبئة وتكاليف استمرار الحرب الباهظة. وأعباءً عسكرية حيث أن التعبئة تكون للقوات الاحتياطية والمجندين الاحتياط المسرحين، وهم بشكل عام أضعف من القوات العاملة وأقل جهازية معنوياً وتدريبياً وبدنياً.
من جانب آخر، سيتيح ذلك الفرصة للغرب بتزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية أكثر فاعلية وأبعد مدى، بحجة التصدي لقوات روسية أكبر، وهو ما لا تتمناه روسيا بالتأكيد.
تداعيات الاقتراع بانفصال ولاية دونيتسك:
إن تم إعلان انضمام ولاية دونيتسك أو لوهانسك للإتحاد الروسي، فهو يعني أن روسيا تستمر في الحرب من منطلق الدفاع عن أراضيها.. ولو تمكنت القوات الأوكرانية من احتلال أي أراضي من الجمهوريتين الروسيتين، ولم تنجح القوات الروسية في صدها ستضطر لاستخدام سلاح ردع فتاك ضد القوات الأوكرانية الغازية (حسب التحرك من وجهة النظر الروسية)، وإن لم تفعل روسيا أي شيئ جراء الاعتداء الأوكراني على أراضيها أو قيام القوات الأوكرانية باحتلال أجزاء منها، ستصبح فضيحة مدوية لدولة روسيا الإتحادية العظمى.
وستكون تداعيات ذلك خطيرة على أوكرانيا وبعض دول أوروبا الشرقية المطلة على البحر الأسود ومعظمها دول ناتو، ولكن الأهم أن التداعيات الأخطر ستكون بلا شك على غرب وجنوب روسيا. ومن ثم على النظام الروسي الحاكم.
دكتور سَــــيْد غُنــــيْم
زميل كلية الحرب العليا/ أكاديمية ناصر العسكرية العليا
رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع – أستاذ زائر بالناتو والأكاديمية العسكرية ببروكسل
المصادر:
مصادر علنية دولية.
مصادر خاصة.